منتدى الشهيد باجوش(صاحب بأس)
أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم لايمكنك رؤية محتوى الموقع الا بعد التسجيل إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيرجى التكرم بتشريفنا أن تقوم بالتسجيل بالضغط هنا إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى،


منتدى الشهيد باجوش(صاحب بأس)
أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم لايمكنك رؤية محتوى الموقع الا بعد التسجيل إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيرجى التكرم بتشريفنا أن تقوم بالتسجيل بالضغط هنا إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى،

منتدى الشهيد باجوش(صاحب بأس)
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى الشهيد باجوش(صاحب بأس) دخول

منتدى دينى ثقافى مسيحى

تفسير العهد القديم(التكوين- الاصحاح 2) Images?q=tbn:ANd9GcSkBvtMl0kToUTANr05I5vX2XztYjg_xI2Oks5fEltfUWYsEG2eEw
وَكَحَزَانَى مَعَ أَنَّنَا دَائِمًا فَرِحُونَ! وَكَفُقَرَاءَ مَعَ أَنَّنَا نُغْنِي الْكَثِيرِينَ! وَكَأَنَّ لا شَيْءَ لَنَا مَعَ أَنَّنَا نَمْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ! (2كور10:6)

descriptionتفسير العهد القديم(التكوين- الاصحاح 2) Emptyتفسير العهد القديم(التكوين- الاصحاح 2)

more_horiz




- الأصحاح الثاني
آدم في الفردوس

بعد العرض السريع لخلق العالم كله وتقديس اليوم السابع حيث استراح الرب عرض الوحي الإلهي لحال الإنسان الأول في الفردوس، مظهرًا مدي اهتمام الله بسعادته.

1. تقديس السبت 1-3.

2. آدم في الفردوس 4-14.

3. وصية الله لآدم 15-17.

4. خلق حواء 18-25.

1. تقديس السبت:

"فأكملت السموات والأرض وكل جندها، وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل، وبارك الله في اليوم السابع وقدسه، لأنه فيه استراح من جميع عمله الذي عمله الله خالقًا" [١–٣].

ماذا يعني "استراح في اليوم السابع"؟ بلا شك الراحة هنا لا تعني التوقف عن العمل، وإنما استراح براحة خليقته، وكما يقول القديس أغسطينوس: [راحة الله تعني راحة الذين يستريحون في الله[79]]. راحته كأب سماوي أن يجد محبوبيه ينعمون بالراحة الداخلية الحقة، لذلك يقول القديس أغسطينوس: [إننا نستريح عندما نصنع أعمالاً صالحة. كمثال لذلك كُتب عن الله أنه "استراح في اليوم السابع"، وذلك عندما صنع كل أعماله وإذا بها حسنة جدًا. إنه لم يتعب ولا احتاج إلي راحة، كما أنه لم يترك عمله حتى الآن، إذ يقول ربنا المسيح بصراحة: "أبي يعمل حتى الآن" (يو 5: 17)[80]].

لقد ختم الرب حديثه عن أعمال الخلق بإعلان راحته في خليقته التي حملت آثار محبته خاصة الإنسان الذي حمل صورته ومثاله، ويبقي الله في راحته مادام الإنسان أيضًا يستريح في حضن أبيه السماوي. لهذا رأي كثير من الآباء أن وصية "حفظ السبت" والتي تعني في العبرية "الراحة" إنما هي رمز للثبوت في السيد المسيح بكونه راحة الآب، فيه يجد لذته من جهتنا، وراحتنا نحن إذ فيه ندخل إلي حضن الآب. وكأن السيد المسيح نفسه هو سبتنا الحقيقي[81]... هذا هو سر اهتمام الله بحفظ وصية السبت، وجعلها خطًا رئيسيًا في خطة خلاص شعبه، من يكسرها يكون قد نقض العهد الإلهي وحرم نفسه من عضويته في الجماعة المقدسة. لنحفظ إذًا السبت الحقيقي بقبولنا السيد المسيح القائم من الأموات كسر راحتنا الحقيقية، لنقبله قائمًا من الأموات فنحفظ السبت كل أيام حياتنا خاصة في اليوم الأول من الأسبوع، كما كان الرسل يجتمعون معًا في أول الأسبوع (الأحد) يمارسون العبادة الجماعية حول الأفخارستيا كموضوع راحتهم الحقة.

إن كان السيد المسيح هو "اليوم السابع" أو (السبت الحقيقي) الذي فيه تصالحنا مع الآب بدم صليبه، فإننا إذ نثبت فيه نحمل سماته فينا ونمتلئ ببره ونصير نحن أنفسنا موضع راحة فنحسب به "سبتًا" أو (يومًا سابعًا)، وكما يقول القديس أغسطينوس: [نصير نحن أنفسنا اليوم السابع عندما نمتلئ ببركات الله وتقديسه ونفعم بها[82]].

هذا ويلاحظ أن الكتاب المقدس لم يقل عن اليوم السابع: "وكان مساء وكان صباح يومًا سابعًا"، وكما يقول القديس أغسطينوس: [لا نجد في السبت مساءً، لأن راحتنا بلا نهاية، إذ يضع المساء نهاية[83]].

2. آدم في الفردوس:

إن كان الله قد خلق للإنسان المسكونة كلها من أرض وجلد وفضاء وكواكب... إنما ليلمس فيها أبوة الله ورعايته الفائقة. وقد كشف عن هذه الأبوة بالحديث بعد ذلك في شيء من التفصيل عن خلق الإنسان وإقامة جنة عدن شرقًا لأجله.

في القرن الثاني يبدو أن العلامة أوريجانوس تطلع إلي قصة آدم وحواء وما حدث معهما كقصة رمزية بحتة قدمها الوحي للكشف عن مفاهيم روحية تمس حياة الإنسان بالله، وان الجنة لم تكن علي الأرض بل في السماء الثالثة حيث كان آدم وحواء روحين بلا جسدين حقيقيين قبل السقوط، وأنهما هبطا من الفردوس أو الجنة إلي الأرض بسبب سقوطهما وأن ما نالاه من جسدين إنما هو من قبيل العقاب. هذه الأفكار هاجمها القديس أبيفانيوس أسقف سلاميس بقبرص في رسالته إلي القديس يوحنا أسقف أورشليم[84].

هذه الأفكار ترفضها الكنيسة تمامًا إذ تشوه من النظرة إلي العالم الذي خلقه الله كعلامة حب لنا، وتفسد نظرتنا لتقديس الجسد... هذا وقد أعلن السيد المسيح ورسله القديسين أحداث الخلق الأولي كأحداث واقعية لا رمزية:

أولاً: يقوم الكتاب بعهديه علي إعلان ذبيحة الخلاص التي احتاجت إليها البشرية بعد سقوط أبوينا آدم وحواء في جنة عدن... (راجع رو 5)، وأن سقوط آدم استلزم عمل المسيح الخلاصي لإقامة الإنسان ككل بروحه وجسده معًا، وليس لخلاص روحه وحدها فلو أن الجسد الإنساني وليد خطايا ارتكبها الروح قبلاً لما كانت هناك حاجة للتجسد الإلهي وخلاص الجسد مع الروح.

ثانيًا: حينما تحدث السيد المسيح نفسه عن الزواج قدم علي أساس ما حدث في بدء الخليقة كحقيقة تاريخية، مانعًا الطلاق (مت 19: 3-6؛ مر 10: 2-9).

ثالثًا: أشار السيد المسيح إلي قصة سقوط أبوينا في بدء الخليقة، موضحًا دور إبليس وخداعه (يو 8: 44).

رابعًا: حينما تحدث الرسول بولس عن الكنيسة كعروس السيد المسيح تحدث عن خداع الحية لحواء كقصة واقعية (1 كو 11: 3).

خامسًا: في نسب السيد المسيح ذكر الإنجيلي لوقا آدم كأول إنسان في الخليقة (لو 3)

سادسًا: تحدث الرسول بولس عن هابيل (ابن آدم وحواء) كشخصية واقعية وليس رمزًا (عب 11: 4).

إن كنا لا ننكر حقيقة هذه الجنة كتاريخ واقعي عاشه آدم، لكننا نري أيضًا في هذه الجنة رمزًا للسيد المسيح الذي جاءنا من الشرق، فيه يدخل آدم ليجد شبعه وفرح قلبه. فإن كانت كلمة "عدن" تعني (بهجة) أو (نعيم)، فإن السيد المسيح ربنا هو البهجة الحقيقية وسر نعيمنا الأبدي.

إن كانت الجنة ترمز للسيد المسيح بكونه سر بهجتنا، فإنها من الجانب الأخر ترمز للكنيسة بكونها جسد المسيح، تحمل في داخلها "شجرة الحياة" في وسطها كرمز للسيد المسيح رأس الكنيسة وسر حياتها.

لقد نزل السيد المسيح إلي العالم ليعلن عن ذاته أنه شجرة الحياة المغروسة في كنيسته من ينعم به يتمتع بالحياة والحكمة، وكما يقول القديس جيروم: [يقول سليمان: "هي شجرة حياة لممسكيها" (أم 3: 18)، متحدثًا عن الحكمة. فإن كانت الحكمة هي شجرة الحياة، فالحكمة بالحقيقة هي المسيح... إذ غُرست هذه الشجرة في جنة عدن، نُغرس نحن جميعًا هناك[85]]. بمعني آخر ما كان يمكن أن يكون لنا نصيب كأشجار حية مغروسة في الفردوس لو لم ينزل شجرة الحياة في وسطه ويعلن ذاته كسر حياة لنا.

أما شجرة معرفة الخير والشر فتشير إلي "المعرفة" التي في ذاتها هي نعمة وبركة، ولكنها إن اتجهت إلي خبرة الشر تصير علة للهلاك. يقول القديس ثاوفيلس الأنطاكي: [شجرة المعرفة في ذاتها صالحة، وثمرها صالح. ليست الشجرة هي التي حملت الموت كما يظن البعض، إنما العصيان هو الذي حمله في داخله، ليس شيء آخر في الثمرة سوي المعرفة وحدها، وهي صالحة إن استخدمت بفطنة[86]].

يروي الجنة نهر قيل عنه: "وكان نهر يخرج من عدن ليسقي الجنة، ومن هناك ينقسم فيصير أربعة رؤوس" [١٠]. إن كانت شجرة الحياة تشير إلي السيد المسيح واهب الحياة، فإن النهر الذي يسقي الجنة هو الروح القدس الذي يفيض علي أرضنا خلال مياه الروح القدس فيحول قفرنا إلي جنة تفرح قلب الله. تحدث السيد المسيح عن هذا النهر، قائلاً: "من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حيّ" (يو 7: 38). ويعلق الإنجيلي علي هذه الكلمات الإلهية بقوله: "قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه، لأن الروح القدس لم يكن قد أُعطي بعد". أما انقسامه إلي أربعة رؤوس فيشير إلي فيض الروح علي الكنيسة في العالم من المشارق إلي المغارب ومن الشمال إلي الجنوب.

إن كان النهر يشير إلي الروح القدس الذي يحل علي المؤمنين لتقديسهم فإن انقسامه إلي أربعة رؤوس إنما يشير إلي تقديسه للجسد الذي يرمز له برقم 4، بكونه مأخوذًا من الأرض (أربع جهات المسكونة)؛ وكأن الإنسان في علاقته بالله يصير بالروح القدس جنة عدن الجديدة التي يقدسها الروح القدس، عاملاً في النفس البشرية كما في الجسد.

أما بالنسبة لموقع الجنة فللآن لم يستقر اللاهوتيون والجغرافيون علي الموقع، فالبعض يظن أنها كانت في أرمينيا لأن الفرات ودجلة ينبعان فيها، أما الرأي السائد فهو أن نهر عدن الذي تفرع إلي أربعة رؤوس ما هو إلا نهر الفرات - دجلة الذي يصب في شط العرب، (في الخليج الفارسي) منقسمًا إلي عدة فروع، فجنة عدن في رأيهم هي القسم الجنوبي من العراق، حيث الخصب. ويعللون ذلك بأن أرض الحويلة حيث الذهب [١١] هي جزء من جزيرة العرب الذي يجاور العراف في جنوبه الغربي؛ أما أرض كوش
[١٣] فغالبًا ما تعني أرض عيلام التي عُرفت إلي زمان طويل باسم كاشو "Cashshu, Cossean" ، كما أن سهل بابل كان يدعي عدنو edinu[87].

3. وصية الله لآدم:

"وأخذ الرب الإله آدم ووضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها" [١٥].

قبل أن يقدم الله لآدم وصية الحب والطاعة، وضعه في جنة عدن ليعمل ويحفظ الجنة؛ إن كان بإقامته الجنة لحسابه أعلن حبه ورعايته له، فإذ أقامه للعمل وحفظ الجنة إعلان عن تقدير الله للإنسان... لقد هيأ له كل وسائل الراحة وأعطاه إمكانيات الفكر والتعقل لهذا لم يقمه في الجنة ليأكل ويشرب ويلهو وإنما أقامه كائنًا له عمله وتقديره في عيني الله.

هكذا قدس الله العمل فأقام أكمل خليقته الأرضية لكي يعمل، ووهبه الحكمة لكي يحفظ الجنة، وكأن الله أقام وكيلاً له علي عمل يديه ليمارس العمل ببهجة قلب وبتعقل!

إذ وهبه الله هذه العطية، عطية العمل في الجنة وحفظها، قدم له وصية: "من جميع شجر الجنة تأكل أكلاً، وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها، لأنك يوم تأكل منها موتًا تموت" [16، 17].

ربما يتساءل البعض: هل من حاجة لهذه الوصية؟ نجيب بأن الوصية تكرّم من شأن الإنسان إذ تعلن حرية إرادته؛ فقد أراد الله أن يتعامل معه علي مستوي فائق، فأعطاه الوصية ليفتح باب الحوار العملي معه، فتكون طاعة آدم لله ليست طاعة غريزية آلية تحكمها قوانين الطبيعة كسائر المخلوقات، وإنما تقوم علي إنسانيته المقدسة وحبه الحق الخارج من أعماقه بكمال حريته. فالوصية ليست حرمانًا للإنسان ولا كبتًا له، وإنما هي طريق للتمتع بقدسية الإرادة الحرة. وقد سبق لنا الحديث عن: "الوصية والحب" في كتيب مستقل.

يري البعض أن الله قدم للإنسان هبات عظيمة، لكنه حتى بعد إقامته في الجنة أراد أن يزكيه ويكرمه بعطايا أعظم - ربما خلال أكله من شجرة الحياة - لو أنه عاش في طاعة للوصية الإلهية يعلن حبه العملي لخالقه وصديقه الأعظم. يقول القديس ثاوفيلس الأنطاكي: [أراد الله تزكية بخضوعه للوصية، وفي نفس الوقت أراد في الإنسان أن يبقي كطفل في بساطة وإخلاص إلي وقت أطول[88]].

لما كان جزاء العصيان "موتًا تموت" ظن البعض أن قصة سقوط أبوينا الأولين رمزية، قائلين بأن الجزاء صعب للغاية ولا يتناسب مع الوصية بعد الأكل من ثمرة شجرة معينة. لكن يجيب الدارسون علي ذلك بالآتي:

أولاً: أن الجزاء ليس بسبب نوع الوصية إنما بسبب الفكر الداخلي الذي قابل محبة الله الفائقة ورعايته للإنسان بالجحود. العقوبة هي ثمرة طبيعية للخطية، أيًا كانت، كما أن الفردوس ببهجته الأولي يناسب حالة الإنسان الملتصق بإلهه.

ثانيًا: بشاعة العقوبة تتناسب مع عطية الحرية الإنسانية وتقدير الله للإنسان.

ثالثًا: بشاعة العقوبة تبرز قوة الخلاص الذي يقدمه الله للإنسان يبذل الابن الوحيد الجنس.

رابعًا: العجيب أن العقوبة سقطت بثقلها علي الأرض والحية، فلم يلعن الله آدم ولا حواء لكنه لعن الحية بسبب مخادعتها للإنسان، وللأرض بسبب الساكن فيها! الله في محبته أبرز مرارة الخطية، لكنه لم يلعن الإنسان... أي حب أعظم من هذا؟!.

4. خلق حواء:
"وقال الرب الإله: ليس جيدًا أن يكون آدم وحده، فأصنع له معينًا نظيره" [١٨].

إن كان خلق العالم ككل قد احتاج إلي ملايين السنوات، لكن الوحي سجله في أصحاح واحد باختصار شديد لكي يبقي الكتاب المقدس كله يعلن اهتمام الله بالإنسان علي وجه الخصوص، مركز العالم في عيني الله. أهتم بأموره المادية والنفسية كما الروحية... والآن إذ يراه وحيدًا في الجنة أراد أن يصنع له معينًا نظيره. جاء تعبير: "معينًا نظيره" يكشف عن مفهوم الحياة الزوجية، علاقة آدم بحواء، أو الرجل بالمرأة. فالزوجة معينة لرجلها، كما أن الرجل معين لزوجته، وهي نظيره لا تتشامخ عليه ولا هي أقل منه! كأن الحياة الزوجية تقوم علي أساس الوحدة الحقة التي تعين الاثنين خلال الاحترام المتبادل.

حدثنا عن خلقه حواء كزوجة وحيدة لآدم، جلبها له من جنبه بعدما أوقع عليه سباتًا فنام... فرأي آدم أنها عظم من عظامه ولحم من لحمه [23]، وقد دعاها امرأة لأنها من امرئ (إنسان) أُخذت. خلال هذا الموقف وضع الكتاب مبدأ الزواج: "لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكونا جسدًا واحدًا" [24].

جاءت قصة خلق حواء تحمل رمزًا لخلق الكنيسة عروس المسيح، التي من أجلها أخلي العريس ذاته ليلتصق بها وينطلق بها إلي سمواته. وقد جاءت كتابات الكنيسة الأولي تحمل فيضًا من الحديث عن خلق حواء وعلاقتها بالكنيسة عروس المسيح؛ نقتطف منها القليل من كلمات القديس أغسطينوس في هذا الشأن:

[متي خلقت حواء؟ عندما نام آدم!

متي فاضت أسرار الكنيسة من جنب المسيح؟ عندما نام علي الصليب[89]].

[إن كان المسيح يلتصق بكنيسته ليكون الاثنان جسدًا واحدًا، فبأي طريقة يترك أباه وأمه؟ لقد ترك أباه بمعني أنه "إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلي نفسه آخذًا صورة عبد" (في 2: 6) بهذا المعني ترك أباه لا بأن نسيه أو انفصل عنه وإنما بظهوره في شكل البشر... ولكن كيف ترك أمه؟ بتركه مجمع اليهود الذي وُلد منه حسب الجسد، ليلتصق بالكنيسة التي جمعها من كل الأمم[90]].

[(في حديثه عن سر الوحدة بين السيد المسيح وكنيسته كعريس وعروسه) يقول الرسول عنه: "هذا السر عظيم ولكنني أقول من نحو المسيح والكنيسة" (أف 6: 32)... نحن معه في السماء بالرجاء، وهو معنا علي الأرض بالحب[91]].

[يتحدث ربنا يسوع بشخصه بكونه رأسنا، كما يتحدث بشخص جسده الذي هو نحن كنيسته هكذا تصدر الكلمات كما من فم واحد، فنفهم الرأس والجسد متحدين معًا في تكامل غير منفصلين عن بعضهما البعض، وذلك كما في الزواج، إذ قيل: "ويكونا جسدًا واحدًا" [24][92]].

نختم حديثنا هنا بكلمات القديس أمبروسيوس الذي يري في "الجسد الواحد" وحدة الإرادة خلال الحب بين الرجل وامرأته، إذ يقول: [وضع الله مشاعر الإرادة الصالحة في الرجل والمرأة، قائلاً: "يكونا جسدًا واحدًا" ويمكن أن يُضاف "وروحًا واحدًا"[93]].

أخيرًا بعد أن تحدث عن خلق حواء والتصاقها بالحب مع آدم، قال: "وكان كلاهما عريانيين آدم وحواء وهما لا يخجلان" [٢٥]. كان عريانيين جسديًا، ومستورين روحيًا لهذا لم يجدا ما يخجلهما، لأن ما يخجل الإنسان ليس جسده بل الفساد الذي دب فيه بسبب الخطية. لهذا يري بعض الآباء في الدخول إلي جرن المعمودية عراة عودة إلي الفردوس حيث كان الإنسان في نقاوة قلبه عريانًا حسب الجسد ولا يخجل..

descriptionتفسير العهد القديم(التكوين- الاصحاح 2) Emptyرد: تفسير العهد القديم(التكوين- الاصحاح 2)

more_horiz



3- الإصحاح الثالث
سقوط الإنسان
إذ هيأ الله للإنسان كل إمكانيات الحياة كمتسلط علي الأرض بكل إمكانياتها وهبه أعظم عطية: الحرية الإنسانية، علامة تقدير من الله نحو أكمل خليقة علي الأرض؛ لكن سرعان ما سقط الإنسان بإرادته تحت غواية العدو إبليس متجاهلاً حب الله له:
1. الحيّة المخادعة 1-6.
2. انفتاح أعينهما 7.
3. اهتمام الله بالإنسان 8-13.
4. لعنة الحيّة 14.
5. الوعد بالخلاص 15.
6. تأديب الإنسان 16-19.
7. القميص الجلدي 20-21.
8. طرد الإنسان 22-24.
1. الحيّة المخادعة :
إذ قدم الله للإنسان كل شيء أقامه في الفردوس، ووهبه الوصية ليرد الحب بالطاعة. ولعله كان في ذهن الله هبات أعظم يود أن يقدمها للإنسان كمكافأة له عن طاعته المستمرة للوصية، لكن عدو الخير حسد الإنسان فأراد أن يهبط به إلى الموت مستخدمًا الحيّة ليدخل مع الإنسان في حوار مهلك.
يقول الكتاب: "وكانت الحيّة أحيل جميع حيوانات البرية التي عملها الله، فقالت للمرأة: أحقًا قال الله لا تأكلا من كل شجر الجنة؟! فقالت المرأة للحية: من ثمر شجر الجنة نأكل، وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا" [1– 3.]
لقد استخدم العدو الخليقة الصالحة التي من عمل الله كوسيلة لتحطيم الإنسان، فكان العيب لا في الوسيلة، وإنما في الإنسان الذي قبل أن يدخل في حوار باطل مع الحيّة، خاصة وأن المرأة بدأت تحرّف كلمات الله إذ ادعت أنه طالبهما ألا يمسا الثمر، الأمر الذي كان فيه مبالغة! لهذا يسألنا الرسول بولس أن نهرب من مثل هذا الحوار المفسد للعقل والنفس، قائلاً: "المباحثات الغبية والسخيفة اجتنبها" (2 تي 2: 23).
كثيرًا ما أكد القديس يوحنا الذهبي الفم أنه ما كان يمكن للشيطان أن يتسلل إلينا ويغلبنا ما لم نعطه الفرصة بالتراخي أو الدخول معه في حوار باطل، فمن كلماته:
[قد يقول قائلاً: ألم يؤذِ الشيطان آدم، إذ أفسد كيانه وأفقده الفردوس؟ لا إنما السبب في هذا يكمن في إهمال من أصابه الضرر ونقص ضبطه للنفس وعدم جهاده. فالشيطان الذي استخدم المكائد القوية المختلفة لم يستطع أن يخضع أيوب له، فكيف يقدر بوسيلة أقل أن يسيطر علي آدم، لو لم يغدر بنفسه علي نفسه؟ ]
[التراخي والكسل وليس إبليس هما اللذان يصرعان غير اليقظين... إنما هذان يسمحان لإبليس لكي يفرط في الشر .]
[لم أنطق بهذه الأمور لأبرئ الشيطان من الذنب، لكن لكي أحذركم من الكسل. فإن الشيطان يرغب في أن نلقي باللوم عليه عندما نخطئ... بهذا نغرق في كل صنوف الشر ونزيد علي أنفسنا العقوبة، ولا ننال العفو، إذ ننسب العلة إليه (دون أن نقدم توبة) .]
أما عن الحوار الباطل الذي دخلت فيه حواء مع الحيّة، فيقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كان يجب عليها أن تصمت؛ كان يلزمها ألا تبادلها الحديث، ولكن في غباء كشفت قول السيد، وبذلك قدمت للشيطان فرصة عظيمة... انظروا أي شر هذا أن نسلم أنفسنا في أيدي أعدائنا والمتآمرين علينا؟‍! لهذا يقول السيد المسيح: "لا تعطوا القدس للكلاب، ولا تطرحوا درركم قدام الخنازير (لئلا تدوسها بأرجلها) وتلتفت فتمزقكم" (مت 7: 6). هذا هو ما حدث مع حواء. لقد أعطت القدس للكلاب. والخنازير، فداست عليها بأرجلها والتفتت ومزقت المرأة .]
ليتنا لا نخاف الشيطان فإنه لا يستطيع أن يقتحم قلبنا بالعنف وإنما نخاف من أنفسنا إذ نقبل حيله وأضاليله، فنسمح له بالتسلل إلى أعماقنا ليتسلم قيادة إرادتنا ويسيطر علي القلب والفكر والحواس، ونسقط تحت عبوديته المرة.
في هذا الحوار الذي دار بين حواء والحيّة لم يقدم الشيطان للإنسان إلاَّ وعودًا، قائلاً: "لن تموتا، بل الله عالم أن يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر" [4، ٥.] مجرد وعد أنهما يكونان كالله (كبرياء!) وينالان معرفة، لكنه لم يقدم عملاً لصالحهما وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لم يظهر الشيطان عملاً صالحًا - قليلاً كان أو كثيرًا - بل أغوي المرأة بالكلام المجرد ونفخها برجاء باطل، وهكذا خدعها، ومع هذا نظرت إلى الشيطان كموضع ثقة أكثر من الله، مع أن الله أظهر إرادته الحسنة بأعماله .] كما يقول: [إذ لم يكن الشيطان قادرًا علي تقديم شيء عمليًا قدم بالأكثر وعودًا في كلمات. هكذا هي شخصية المخادعين .]
حقًا لقد كان يمكن لحواء أن تعرف خديعة العدو وتدرك مضاداته لله ومقاومته لكلماته، فبينما يقول الله لآدم: "موتًا تموت"، يقول الشيطان: "لن تموتا". وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كيف يليق بالإنسان أن يدرك العدو والخصم إلاَّ من هذه الإجابة المناقضة لأقوال الله؟! كان يليق بحواء أن تهرب للحال من الطُعم وتتراجع عن الشبكة .] بمعني آخر ليتنا نقبل الله كقائد لحياتنا ونرفض إبليس كمخادع لنا ومهلك لنفوسنا. وكما يقول القديس أغسطينوس: [الله هو قائدنا والشيطان هو مهلكنا، القائد يقدم وصيته، وأما المهلك فيقترح خدعة، فهل نصغي للوصية أم للخداع؟! ]
حدثنا آباء الكنيسة عن خداع إبليس لآدم (وحواء)، وقد رأوا في هذا الخداع ثلاث خطايا رئيسية قدمها العدو لتحطيم البشرية كلها، وعاد ليحارب آدم الثاني (السيد المسيح) بذات الخطايا، حاسبًا أنه قادر علي اقتناصه في شباكه، وكما يقول الأب سرابيون: [كان يلزم بحق لربنا أن يُجرب بنفس الأهواء التي جُرب بها آدم حين كان في صورة الله قبل إفسادها، وهي النهم والطمع والكبرياء، التي تشابكت وأفرخت بعدما تعدي الوصية وأفسد صورة الله وشبهه. لقد جُرب آدم بالنهم حين أخذ الفاكهة من الشجرة الممنوعة، وجُرب بالطمع حين قيل له: "تنفتح أعينكما"، وبالكبرياء حين قيل: "تكونا كالله عارفين الخير والشر" (تك 3: 5) وأيضًا جُرب مخلصنا بالخطايا الثلاثة، بالفهم حين قال له الشيطان: "قل أن تصير هذه الحجارة خبزًا" (مت 4: 3)، وبالكبرياء حين قال له: "إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل، وبالطمع حين رآه جميع ممالك الأرض ومجدها، وقال له: "أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي" (مت 4: 9). لقد أعطانا الرب نفسه مثالاً كيف يمكننا أن ننتصر كما انتصر هو حين جُرب. لقد لقب كلاهما بآدم، أحدهما الأول في الهلاك والموت، والثاني كان الأول في القيامة والحياة، بالأول صارت البشرية كلها تحت الدينونة وبالثاني تحررت البشرية .]
وقد ركز كثير من الآباء علي خطية الكبرياء بكونها رأس الخطايا، خلالها تحطم إبليس وجنوده، مقدمًا ذات الوسيلة ليحطم البشرية. يقول القديس أغسطينوس عن الأبوين الأولين اللذين خدعهما الشيطان بروح الكبرياء: [لقد أنصتا لصوت المخادع: "تصيران كالله" فهجرا الله الذي أراد أن يجعلهما إلهين لا خلال عزلتهما عنه وإنما خلال شركتهما فيه .] كما يقول : [بالكبرياء نفشل في بلوغ هذا الخلود... إن كنا بالكبرياء قد جُرحنا فبالاتضاع ننال الشفاء. جاء الله في اتضاع لكي يشفي الإنسان من جرح الكبرياء الخطير .]
هكذا يكشف لنا الآباء خداع العدو إبليس، هذا الذي تسلل إلى حواء خلال الحيّة، لكي بدورها تسحب رجلها إلى السقوط معها، إذ قيل: "فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها أيضًا معها فأكل" [٦.] وهكذا فقدت حواء رسالتها الأصيلة كمعينة (2: 18) بل صارت فخًا لرجلها ومحطمة لحياته.
يري القديس ديديموس الضرير أن إبليس أو الشيطان عمل خلال الحيّة التي أغوت المرأة، هذه التي بدورها سحبت معها رجلها، وكأن العدو في حربه يبدأ خلال الشهوة كحية تتسلل إلينا، لكي تخدع الحواس التي تمثل المرأة، والحواس بدورها يكون لها فاعليتها في العقل (الرجل)، فيفقد العقل اتزانه وحكمته وينحرف إلى الشر.

2. انفتاح أعينهما :
"فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان، فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر" [7.]
ماذا يعني انفتاح العينين لتريا أن الجسد عريان، إلاَّ أن الإنسان بالخطية يدرك أنه دخل إلى حالة من الفساد تظهر خلال أحاسيس الجسد وشهواته التي لا تُضبط؟! بهذا يدخل الإنسان في معرفة جديدة، هي خبرة الشر التي امتزج بحياته وأفسد جسده تمامًا؛ إنه يتعرف علي جسده الذي صار عنيفًا في الشر بلا ضابط.
يقول القديس أغسطينوس: [لقد اختبرا إحساسًا جديدًا في جسديهما اللذين صارا عاصيين لهما كمكافأة حازمة لعصيانهما الله. فالنفس الثائرة علي خدمة الله محتقرة هذا العمل بكامل حريتها تفقد سيطرتها التي كانت لها قبلاً علي الجسد .] كما يقول: [انفتحت أعينهما لا لينظرا، فإنهما كانا ينظران من قبل، إنما ليميزا الخير الذي فقداه والشر الذي سقطا فيه ]، [لقد عرفا أنهما عريانان، عريانان من تلك النعمة التي حفظتهما من خزي عري الجسد، بينما قدمت لهما شريعة الخطية عدم ثبات لذهنهما .]
يقول القديس أمبروسيوس: [صار لك معرفة أنك عريان، لأنك فقدت ثوب الإيمان الصالح. هذه هي الأوراق التي بها تطلب أن تستر نفسك. لقد رفضت الثمر وأرادت الاختفاء وراء أوراق الناموس ولكنك خُدعت .]
هكذا إذ يري الإنسان نفسه عاريًا عن ثمرة النعمة الإلهية التي تعمل في أعماق القلب الداخلي يتستر وراء حرفية الناموس وشكليات ظاهرة دون التمتع بالتغيير الداخلي. ويري القديس ديديموس الضرير أن الإنسان يلجأ إلى أوراق التين يحيكها مآزرًا لنفسه لا تقدر أن تستره، بالتعلل بأعذار واهية لما يرتكبه، إذ يقول: [أحيانًا يحيك الخاطئ لنفسه أعذارًا عن خطاياه. أليس هذا هو ما نراه في كثير من الناس؟! فالغضوب مثلاً يخترع أعذارًا لكي يبرر غضبه مظهرًا أنه علي حق، مستعينًا أحيانًا بالكتاب المقدس، هذا هو معني "خاطا أوراق تين"، وذلك بإهمالهما للثمر وإقامة نوع من الحماية غير الكاملة كمآزر لهما. فالغضوب مثلاً نسمعه يقدم (إيليا) مثالاً بأنه غضب وأهلك رئيس الخمسين (2 مل 1: 9-12) .]
3. اهتمام الله بالإنسان :
إن كان الإنسان قد قابل حب الله بالعصيان، فالله يقابل حتى هذا العصيان بالحب لكي يسحب قلبه من مرضه الذي أصابه، ويقيمه من الموت الذي ملك عليه (رو 5: 14). لقد جاء صوت الله ماشيًا في الجنة ليلتقي مع الإنسان الساقط.
يقول الكتاب: "وسمعا صوت الرب الإله ماشيًا في الجنة عند هبوب ريح النهار" [٨.] لقد سمعا "صوت الرب" ماشيًا مع أن الصوت لا يمشي، لكنه هو "صوت الرب" أي (كلمته)، الابن وحيد الجنس الذي جاء مبادرًا بالحب ليقتنص الإنسان الساقط ويقيمه. جاء عند هبوب ريح النهار، إذ نلتقي به بالروح القدس، لأن كلمة "روح" و "ريح" في العبرية هي واحدة. جاء في وسط النهار لنتعرف عليه خلال نوره. وكما يقول المرتل: "بنورك يا رب نعاين النور" بمعني آخر لن نسمع صوت الرب متمشيًا فينا ما لم يهب بروحه القدوس علي جنته في أعماقنا ويضيء عليها بنوره الإلهي فنصير كمن في وسط النهار.
لم ينتظر الله الإنسان ليأتي إليه معتذرًا عن خطاياه، إنما تقدم إليه لكي بالحب يجتذبنا إلى معرفة خطايانا والاعتراف بها. بنفس الروح يطالبنا ربنا يسوع أن نذهب نحن إلى أخينا الذي أخطأ إلينا ونعاتبه ولا ننتظر مجيئه إلينا (مت 18: 15). وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم إن المخطئ غالبًا ما يحجم عن المجيء بسبب خجله، لذا يليق بنا أن نذهب إليه أولاً بمفردنا لكي بالحب نربحه لأنفسنا كما يربح هو نفسه.
هكذا بادر كلمة الله بالحب، فنادي آدم وقال له: "أين أنت؟" [9.] لم يكن يجهل موضعه لكنه أراد الدخول معه في حوار، كاشفًا له أنه قد صار غير مستحق أن يكون موضع معرفة الله، وكأنه قد صار مختفيًا عن النور الإلهي. يقول القديس أغسطينوس أن الشرير يخرج بشره من دائرة نور الله فيصبح كمن هو خارج معرفة الله، لا بمعنى أن الله لا يعرفه، وإنما لا يعرفه معرفة الصداقة والشركة معه، لهذا يقول للجاهلات: "الحق أقول لكن إني ما أعرفكن" (مت 15: 14). يقول القديس جيروم: [سمعنا أن الله لا يعرف الخطاة، لنتأمل كيف يعرف الأبرار؟!.]
الآن، ما هو موقف الإنسان تجاه هذه المبادرة الإلهية؟
أولاً: "اختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة" [٨.] هذا الهروب هو ثمر طبيعي للعصيان والانفصال عن دائرة الرب، إذ لا تطيق الظلمة معاينة النور، وكما يقول آدم: "سمعت صوتك في الجنة فخشيت، لأني عريان فاختبأت" [10.]
يحدثنا القديس أمبروسيوس عن سر هروب الخاطئ من وجه الرب بقول: [الضمير المذنب يكون مثقلاً حتى أنه يعاقب نفسه بنفسه دون قاضٍ، يود أن يتغطى لكنه يكون أمام الله عاريًا .] كأن الخطية تفقد الإنسان سلامه الداخلي وتدخل به إلى حالة من الرعب. ويعلل القديس ديديموس الضرير اختفاء آدم بقوله ان الإنسان قد طلب المعرفة خلال خبرة الشر فاختبأ من وجه الرب بابتعاده عن معرفة الله النقية. ويري العلامة أوريجانوس أن الأشرار يختفون عن وجه الرب إذ قيل" "حَوّلوا نحوي القفا لا الوجه" (إر 2: 27)، أما الأبرار فيقفون أمامه بثقة ليهبهم الحياة المقدسة (1 يو 3: 21)، قائلين مع إليشع النبي: "حيّ هو الرب الذي أنا واقف أمامه" (2 مل 5: 16).
هكذا أختفي آدم بعد السقوط ولم يقدر أن يعاين الرب لا لأن الرب مرعب ومخيف وإنما لأن الإنسان في شره فقد صورة الله الداخلية التي تجتذبه بالحب نحو خالقه محب البشر، فصار الله بالنسبة له مرعبًا وديانًا لخطاياه، فالغيب في الإنسان الذي فقد نقاوة طبيعته وخسر استنارة بصيرته الداخلية. لذلك يعلق القديس ديديموس الضرير علي اختفاء آدم برعب، هكذا: [يعلل آدم عريه كسبب لخوفه، هذا العري الذي نجم عن فقدانه للفضيلة التي تستره، فالفضيلة بالحق هي ملبس إلهي. بهذا يعظ الرسول: "البسوا الرب يسوع" (رو 13: 14)، "البسوا أحشاء رآفات" (كو 3: 12)، أي زينوا أنفسكم بسلوك الرأفة حسب المسيح، أو "نلبس أسلحة النور" (رو 13: 12)، حتى نقدر أن نحارب الأعداء (الروحيين) .]
ثانيًا: عندما التقي الله بالإنسان خلال مبادرته بالحب بالرغم من هروب الأخير وتخوفه، فإن الأخير لم ينكر خطأه لكنه برر خطأه بإلقاء اللوم علي الغير، فقال آدم: "المرأة التي جعلتها معي هي التي أعطتني من الشجرة فأكلت" [12]، وقال المرأة: "الحيّة غرّتني فأكلت" [13.] هكذا ألقي آدم باللوم علي حواء بل علي الله الذي أعطاه حواء، وألقت المرأة باللوم علي الحيّة، ولم يعتذر أحد منهما عما ارتكبه. يعلق القديس ديديموس الضرير علي إجابة آدم بقوله: [كان يليق به أولاً أن يفكر بأنه استلم زوجته من الرب لخيره، وأنه لم يتسلمها لتعطيه دروسًا بل لتتمثل هي به .] كما يعلق علي إجابة حواء بقوله: [الآن تعترف أنها انخدعت... فإن هذا هو حال المخدوعين لا يدركون الشر إلاَّ بعد إتمامه، إذ تخفي الشهوة عنهم إدراكهم للحقيقة وتنزع عنهم المعرفة .]
4. لعنة الحيّة :
"فقال الرب الإله للحية: لأنكِ فعلتِ هذا ملعونة أنتِ من جميع البهائم ومن جميع وحوش البرية، علي بطنك تسعين وترابًا تأكلين كل أيام حياتك" [14.]
إذ حملت الحيّة خداعات إبليس للإنسان نالت اللعنة التي تصيب كل نفس تقبل سمات هذه الحيّة فيها وترتضي أن تكون آلة الحساب عدو الخير وإغراءاته. أما اللعنة فهي: "علي بطنك تسعين وترابًا تأكلين كل أيام حياتك". هكذا كل إنسان يقبل أن يكون أداة للعدو الشرير يصير كالحيّة، يسعى علي بطنه محبًا للأرضيات، ليس له أقدام ترفعه عن التراب، ولا أجنحة تنطلق به فوق الزمنيات. يصير محبًا أن يملأ بطنه بالتراب، ويزحف بجسده لتشبع أحشاؤه مما يشتهيه. هذا ومن جانب آخر فإن من يقبل مشورة الحيّة يشتهي الأرضيات فيصير هو نفسه أرضًا وترابًا، أي يصير مأكلاً للحية التي تزحف لتلتهمه. أما من له أجنحة الروح القدس فيرتفع فوق التراب منطلقًا نحو السماء عينها فلا تقدر الحيّة الزاحفة علي الأرض أن تقترب إليه وتلتهمه.
ويقول القديس أغسطينوس: [يلتصق (الأشرار) بالأرضيات، وإذ هم مولودون من الأرض يفكرون فيها، وبكونهم أرضًا يصيرون طعامًا للحية ]، كما يقول: [إذ يطأ العدو حياتي يجعلها أرضًا فتصير له طعامًا ]، [أتريد ألا تكون مأكلاً للحية؟!‍ لا تكن ترابًا ‍ تجيب: وكيف لا أكون ترابًا؟ إن كنت لا تتذوق الأرضيات .]
5. الوعد بالخلاص :
إذ لعن الحيّة التي أغوت الإنسان حتى نرفضها ونرفض سماتها فينا، قدم لنا أول وعد بالخلاص، قائلاً للحيّة: "واضع عداوة بينك وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها، وهو يسحق رأسكِ وأنتِ تستحقين عقبه" [١٥.]
صارت الحيّة تمثل إبليس نفسه، الذي دُعي "الحيّة القديمة" (رؤ 20: 2)، وقد وضع الله عداوة بين إبليس والمرأة حتى يأتي السيد المسيح من نسل المرأة - دون زرع بشر - يسحق رأس الحيّة التي سحقت عقب البشرية. سحق السيد المسيح - مولود الامرأة - بصليبه رأس الحيّة، كقول الرسول : "إذ جرد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا ظاهرًا بهم فيه (في الصليب)" (كو 2: 14)، لكن الحيّة تسحق كل إنسان ينزل عن الحياة العلوية التي في الرب ليصير عقبًا يرتبط بالتراب.
يري القديس أغسطينوس أن رأس الحيّة هو الكبرياء الذي يحدر حياة الإنسان فيجعلها عقبًا، عندئذ تقدر أن تنفس فيه سمومها، إذ يقول: [تترقب الحيّة عقب الكبرياء، عندما تراك تسقط بالكبرياء وتنحدر. إذن فلتلاحظ أنت رأسها أي الكبرياء بكونه رأس كل الخطايا .] كما يري أن رأس الحيّة هو بداية انطلاق الخطية فينا خلال الفكر الشرير، لذا يليق بنا أن نسحقه في بدايته قبل أن يحدرنا إلى العقب ويقتلنا. إنه يقول: [ما هذه الرأس؟ إنها بداية كل اقتراح شرير. فعندما يقترح عليك (العدو) فكرًا شريرًا القه عنك قبلما تثور اللذة فيك وتقبله. لتتجنب رأسه فر يمسك بعقبك .]
6. تأديب الإنسان :
إذ قدم الوعد بالخلاص أعلن تأديبه للإنسان؛ فتح باب الرجاء بإعلان الخلاص قبلما يقدم التأديب المرّ حتى لا يسقط الإنسان تحت ثقل اليأس. وقد أعلن تأديبه للمرأة أولاً ثم للرجل.
أولاً تأديب المرأة: "تكثيرًا أكثر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولادًا، وإلى رجلك يكون إشتياقك، وهو يسود عليك" [١٦.] هذا التأديب الذي سقطت تحته حواء بسبب الخطية، تحول بمراحم الله إلى بركة حينما قبلت الكنيسة - حواء الجديدة - أن تلد أولادًا روحيين لله خلال آلامها. يقول القديس أغسطينوس: [تحبل الكنيسة - عروس المسيح - بالأطفال وتتمخض بهم. كمثال لها دُعيت حواء أم كل حيّ [٢٠.] يقول أحد أعضاء هذه الكنيسة التي تتمخض: "يا أولادي الذين أتمخض بكم أيضًا إلى أن يتصور المسيح فيكم" (غلا 4: 19). لكن الكنيسة لا تتمخض باطلاً، ولا تلد باطلاً، إنما تجد البذار المقدسة عند قيامة الأموات، تجد الأبرار الذين يتعثرون الآن (بالآلام) في العالم كله .]
وما تحتمله الكنيسة - حواء الجديدة - من آلام في حبلها بالأولاد الروحيين وإنجابهم في الرب إنما تحتمله أيضًا كل نفس ككنيسة وهي تحبل بثمر الروح لتلد أولادًا يفرحون قلب الله. وكما يقول القديس ديديموس الضرير: [تنجب الكنيسة أولادًا وهي في العالم خلال الألم، لأن الفضيلة تستلزم الحزن، والندامة تنشئ توبة للخلاص بلا ندامة (2 كو 7: 10)... "ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة؟!" (مت 7: 13)، لكنه "واسع الباب ورحب الطريق الذي يؤدي إلى الهلاك وكثيرون هم الذين يدخلون منه". أما عن الدموع فهي ممدوحة .]
وكما تحولت ولادة البنين بالتعب إلى بركة بقبول حواء الجديدة. الأتعاب لإنجاب أبناء في الرب، هكذا تحول أيضًا التأديب الآخر: "إلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك" إلى بركة روحية حين تقدم كلمة الله المتجسد إلى حواء الجديدة كرجلها، يسود عليها بالحب الباذل، وتشتاق هي إليه لتنعم به كسر حياتها وتتمتع بسماته فيها لتدخل معه إلى أمجاده الأبدية.
ثانيًا تأديب الرجل: "ملعونة الأرض بسببك، بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك، وشوكًا وحسكًا تنبت لك وتأكل عشب الحقل. بعرق وجهك تأكل خبزًا حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها، لأنك تراب وإلى تراب تعود" [١٧- ١٩.]
خلق الله الأرض من أجل الإنسان، وبسببه باركها لتثمر له بركات، فإذ عصى الرب سقطت تحت اللعنة لتثمر له شوكًا وحسكًا يتناسب مع عصيانه أو فكره الداخلي. وما حدث للأرض بصورة حرفية تحقق في الأرض الرمزية أي الجسد، الذي بسبب عصياننا لله فقد اتزانه وخسر تقديسه فصار ينبت لنا شوكًا وحسكًا يفسد النفس ويحطمها. هكذا بقيت أرضنا بلا ثمر روحي. حتى جاءت القديسة مريم، فقدّسها الروح القدس بقبولها الوعد الإلهي، فأنتجت لنا الثمر البكر الذي يفرح قلب الآب ويبهج حياتنا. وكما يقول القديس جيروم: [أعطيت هذه الأرض غلتها، فما فقدته في جنة عدن وجدته في الابن .]
هكذا بتجسد كلمة الله أمكن لأرضنا أن تنتج ثمرًا عوض الشوك والحسك، خاصة وأن السيد حمل هذا الشوك علي جبينه عوض أرضنا حتى يرد لأرضنا بهجتها.
حملت الأرض اللعنة بسبب خطايانا، فصارت الحياة بالنسبة للإنسان - بعد سقوطه - صعبة وقاسية، إذ قيل: "بعرق وجهك تأكل خبزًا".
أخيرًا إذ يشتهي الإنسان الأرض أو التراب عوض السماء يقال له: "لأنك تراب وإلى التراب تعود"، وبهذا صار مأكلاً للحيّة التي قيل لها: "ترابًا تأكلين كل أيام حياتك" [14.] من أجل هذا جاء كلمة الله السماوي لينزع عنا الطبيعة الترابية واهبًا إيانا السمات السماوية. وكما يقول القديس جيروم: [كما يُقال للخاطي: أنت تراب وإلى التراب تعود، هكذا يُقال للقديس: أنت سماء وإلى السماء تعود .]
7. القميص الجلدي :
"ودعا آدم امرأته حواء، لأنها أم كل حيّ" [٢٠.]
إن كان آدم وحواء قد سقطا تحت التأديب، فإنهما أبوانا الأولان، نجد في آدم أبًا لكل البشرية، وفي حواء أمًا للجميع... لكن خلال هذه الوالدية تسربت إلينا الخطية وسقطنا معهما تحت ذات التأديب حتى جاء آدم الثاني يهب الحياة الحقة للمؤمنين وصارت امرأته - حواء الجديدة - الأم الصادقة لكل حيّ. يقول القديس ديديموس الضرير: [الكنيسة هي أم المؤمنين، والمسيح هو أب لهم، الذي فيه تنبع كل أبوة ما في السموات وما علي الأرض (أف 3: 15) .] ويقول القديس جيروم: [كما توجد حواء واحدة هي أم كل الأحياء، هكذا توجد كنيسة واحدة هي والدة كل المسيحيين .]
والآن إذ سقط الأبوان الأولان تحت التأديب الإلهي أعلن الله محبته لهم قبل طردهما من الجنة، إذ صنع لهما أقمصة من جلد وألبسهما [21] عوض أوراق التين التي صنعاهما لأنفسهما مآزر. هذه الأقمصة ربما تعلن عن كشف الله للإنسان الأول عن أهمية الذبيحة كرمز لذبيحة الخلاص... وكأن الله سلم آدم وحواء طقس الذبيحة الدموية. هذا والأقمصة الجلدية التي لا تجف ترمز إلى السيد المسيح الذبيح الذي نلبسه كساتر لخطايانا ونازع لفضيحة طبيعتنا القديمة.
يري القديس امبروسيوس في الأقمصة الجلدية إشارة إلى أتعاب أعمال التوبة، إذ يقول: [ألبسهما الله أقمصة من الجلد لا من الحرير .]
8. طرد الإنسان :
إذ صنع الله للإنسان قميصًا من جلد وألبسه، معلنًا رعايته الفائقة له خلال ذبيحة الصليب وستره لا بجلد حيوانات ميتة وإنما بالرب يسوع نفسه واهب الحياة، الذي يخفيه داخله ويستر عليه، قام بطرده من الفردوس... لماذا؟
أولاً: إن كان الله قد طردنا من الفردوس، ففي حقيقة الأمر نحن طردنا أنفسنا بأنفسنا، إذ خلال العصيان صارت طبيعتنا الفاسدة لا تليق بالحياة الفردوسية المقدسة بل تناسب الأرض التي تخرج الشوك والحسك. لهذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لقد وهبنا الله الفردوس، وهذا من صنع عنايته المتحننة؛ ونحن أظهرنا عدم استحقاقنا للعطية، وهذه نتيجة إهمالنا الخاص بنا، لقد نزع العطية من أولئك الذين صاروا غير مستحقين لها، وهذا نابع عن صلاحه... .]
ثانيًا: طرد الإنسان من الفردوس لا يعني الله حرمانه من عمل يديه وإنما تهيئته للتمتع بفردوس أعظم وحياة أبدية لا تنتهي. فيقول القديس ثاوفيلس الأنطاكي: [أن الطرد وإن كان عقوبة لكنه حمل صلاحًا من جهة الله، إذ أراد معاقبة الخطية وإصلاح الإنسان ورده بعد إعادة تجديده .] ويقول القديس أمبروسيوس: [أعطي الموت كعلاج إذ يضع حدًا للشرور .] بنفس الفكر يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [تأمل ماذا يكون موقف قايين لو بقي في الفردوس وهو سافك دم؟!... لقد أعطي الفردوس للإنسان، وعندما أظهر الإنسان عدم استحقاقه طرده، حتى يصير ببقائه خارجًا وبإهانته إلى حال أحسن (بإظهار التوبة) فيقمع نفسه أكثر ويستحق العودة. وهكذا عندما صنع هذا وصار في حال أفضل أعاده مرة أخري، قائلاً: "إنك اليوم تكون معي في الفردوس" (لو 23: 34). هل رأيت كيف أنه ليس فقط إعطاء الفردوس بل وطردنا منه هو علامة عظم اهتمام مملوءة ترفقًا؟! فلو لم يعانِ الإنسان الطرد من الفردوس ما كان يمكن أن يظهر مستحقًا له مرة أخري .]
لقد خشي الرب أن يأكل الإنسان من شجرة الحياة وهو فاسد في طبيعته فيبقي في شره أبديًا، إذ يقول الكتاب: "وقال الرب الإله: هوذا الإنسان قد صار كواحد منه عارفًا الخير والشر، والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضًا ويأكل ويحيا إلى الأبد" [٢٢.]
ويبدو أن المتحدث هنا هو الثالوث القدوس، إذ يقول: "قد صار كواحد منا" من جهة معرفة الخير والشر، لكن الإنسان نال المعرفة خلال خبرة الشر القاتلة.
يعلق الأب شيريمون علي هذه المعرفة، قائلاً: [لا يمكننا أن نظن بأن الإنسان كان قبلاً جاهلاً الخير تمامًا، وألاَّ يكون مخلوقًا غير عاقل كالحيوان العجموات، وهذا القول غريب تمامًا عن إيمان الكنيسة الجامعة. علاوة علي هذا يقول سليمان الحكيم: "الله صنع الإنسان مستقيمًا" (جا 7: 29)، بمعني أنه علي الدوام يتمتع بمعرفة الخير وحده، "أما هم فطلبوا اختراعات كثيرة" (جا 7: 29)، إذ صارت لهم معرفة الخير والشر كما قيل. لقد صار لآدم بعد السقوط معرفة الشر الذي لم يكن يعرفه قبلاً، لكنه لم يفقد معرفته للخير الذي كان يعرفه .]
أخيرًا إذ طُرد الإنسان من الفردوس أقام الله كاروبًا للحراسة... حتى جاء الجالس علي الكاروبيم نفسه يحملنا في جنبه المطعون ليدخل بنا إلى فردوسه السماوي..

descriptionتفسير العهد القديم(التكوين- الاصحاح 2) Emptyرد: تفسير العهد القديم(التكوين- الاصحاح 2)

more_horiz



4- الإصحاح الرابع
هابيل وقايين
إن كانت الخطية قد انطلقت من حواء إلى آدم خلال غواية الحية فقد جاء النسل كله يحمل ميكروبها في طبيعتهم، وكما يقول الرسول: "من أجل ذلك كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع" (رو 5: 12). وقد ظهر ذلك بقوة في قايين الذي لم يحتمل قبول الله ذبيحة أخيه فارتكب أول حالة قتل في تاريخ البشرية. وقد اهتم كثير من الآباء بقصة هابيل وقايين بكونها قصة البشرية الساقطة التي حملت البغضة لبعضها البعض.
1. قبول تقدمة هابيل 1-7.
2. قتل هابيل 8-16.
3. أولاد قايين 17-24.
4. ميلاد شيث 25-26.
1. قبول تقدمة هابيل :
"وعرف آدم حواء امرأته فحبلت وولدت قايين، وقال: اقتنيت رجلاً من عند الرب" [١].
يري فيلون اليهودي الإسكندري بأن قايين وهابيل توأمان، لكن هذا الرأي لم يجد قبولاً لدي آباء الكنيسة الأولي.
اعتمد بعض الأوريجانيين علي هذا النص الذي بين أيدينا ليعلنوا أن آدم عرف حواء كزوجة له بعد السقوط، وكأن العلاقة الزوجية الجسدية في نظرهم هي ثمرة السقوط؛ بل وبالغ البعض بالقول أن السقوط نفسه لم يكن إلاَّ ممارسة هذه العلاقة. هذا الرأي المتطرف رفضته الكنيسة بشدة منذ ظهوره، بل وهاجمته، فقد أكد آباء الكنيسة أن الله هو مؤسس الحياة الزوجية في صورتها الكاملة، وأنه بالسقوط أو بدونه كانت تتم العلاقة الجسدية بين أبوينا ويتحقق إنجاب الأطفال، لكن لا يتم ذلك خلال شهوة شريرة بل كثمرة حب زوجي طاهر. كما رفض الآباء فكرة أن سقوط أبوينا هو اتحادهم الجسدي، إذ يدنس هذا الرأي النظرة نحو الحياة الزوجية.
علي أي الأحوال أدركت حواء أن طفلها هو عطية إلهية لذا دعته "قايين"، أي (مُقتنى) وقالت: "اقتنيت رجلاً من عند الرب" [١]. ولعل سر فرحها به أنها ظنت مجيء المخلص الموعود به من نسلها قد اقترب جدًا، وربما انتظرت أن يتحقق ذلك في أيامها.
شعرت حواء أن ابنها مُقتنى من عند الرب، وكما يقول القديس أمبروسيوس في كتابه "قايين وهابيل": [يليق بنا أن ندرك أن الله هو الموجد والخالق، لذا نسبت حواء العمل لله، وعندما قالت: "اقتنين رجلاً (a man child) من عند الرب"، إنما قالت هذا لكي نتمثل نحن بها في المواقف المتشابهة، فلا نحسب أن النجاح هو من عندياتنا بل ننسبه بكامله لله ].
"ثم عادت فولدت هابيل" [٢]. وقد رأي القديس أمبروسيوس أن قايين يمثل الفكر العقلاني البحت أو المدرسة العقلية، وربما قصد الغنوسيين الذين وضعوا المعرفة العقلية وحدها كطريق للخلاص عوض الإيمان، حاسبين أن الإنسان قادر بعقله دون عون إلهي أن يبلغ معرفة الله ويدرك أسراره، مبدعًا في الفكر والإحساس والعواطف والمشاعر والانفعالات. أما هابيل فيرمز لمدرسة الإيمان التي تستند علي نعمة الله لكي تتمتع بأسرار الله خلال الإيمان المعطي للإنسان دون تجاهل لعقله. فالإيمان لا يناقض العقل إنما يرفعه خلال إعلانات الله له، ويسمو به؛ وإن المدرستين بالرغم من تناقضهما إلاَّ انهما متصلتان معًا، وكأنهما أخوان صدرا عن رحم واحد، وإن كانا لا يستطيعان السكني معًا لزمان طويل.
هذا وتقدم لنا قصة هابيل وقايين صورة حية لقصة بكورية الروح وبكورية الجسد، فإذ كان قايين بكرًا لآدم وحواء حسب الجسد لكنه فقد بكوريته خلال شره وظهرت بكورية هابيل الروحية بقبول ذبيحته بل وحياته كلها موضع سرور الله دون أخيه. هكذا يري القديس أغسطينوس في قايين رمزًا لآدم الأول، بكر البشرية جسديًا، وقد فقد باكوريته ليظهر هابيل الحقيقي، السيد المسيح، آدم الثاني بكرًا حقًا للبشرية، فيه يتقبلنا الآب رائحة سرور ورضي. فمن كلمات القديس أغسطينوس: [من هذه الأبوين الأولين للجنس البشري، كان قايين بكرًا منتسبًا لمدينة الناس، ووُلده بعده، هابيل منتسبًا لمدينة الله فصار هو بالحقيقة البكر أيضًا. وكما في حالة الفرد (هكذا يكون علي مستوي الجنس البشري) قيل بعبارة رسولية مميزة للحق: "لكن ليس الروحاني أولاً بل الحيواني وبعد ذلك الروحاني" (1 كو 15: 46)، هكذا يحدث أن كل إنسان يُنزع عن اصله المُدان يولد أولاً من آدم الجسداني الشرير وبعد ذلك يصير صالحًا وروحانيًا عندما يُطعم في المسيح بالتجديد (بالمعمودية)، هكذا بالنسبة للجنس البشري ككل... إذ نجد سكان هذا العالم يولدون أولاً وبعد ذلك الغرباء عنه أي سكان مدينة الله الذين بالنعمة تعينوا، وبالنعمة اُختيروا، وبالنعمة عاشوا غرباء هنا أسفل، وبالنعمة عاشوا كمواطنين في الأعالي... الله كفخاري صنع من الطينة عينها إناءً للكرامة وآخر للهوان (رو 9: 21)، لكنه صنع إناء الهوان أولاً وبعد ذلك إناء الكرامة ].
لأننا كما أخذنا صورة الترابي أولاً بعدها حملنا أيضًا صورة السماوي إي المسيح فصرنا فيه خليقة جديدة مستحقين أن نكون إناء للكرامة.
[والعجيب أن قصة باكورية الجسد وباكورية الروح امتدت عبر الدهور، فنجد الله يختار إبراهيم أبًا لجميع الأمم ولم يكن بكرًا بين أخوته حسب الجسد، واختار إسحق الذي يصغر جسديًا عن إسماعيل، ويعقوب الذي يصغر عن أخيه عيسو. وجاء السيد المسيح من نسل فارص الذي ولدته ثامار وقد اقتحم فارص أخاه زارح وهو بعد في أحشاء أمه لينزع عنه البكورية (تك 38: 27-30)، وجاءت سلسلة نسب السيد المسيح تقدم مجموعة كبيرة من الآباء لم يكونوا أبكارًا حسب الجسد... هذا وقد سبق لنا الحديث عن مفهوم البكورية وارتباطها بشخص السيد المسيح البكر خلال دراستنا لسفر العدد ].
يري القديس أمبروسيوس في قايين رمزًا لجماعة اليهود الذين حملوا بكورية معرفة الله لكنهم جحدوا الإيمان بالمخلص وتلطخ مجمعهم بسفك دم برئ، ليأتي هابيل ممثلاً لكنيسة العهد الجديد تضم أعضاء من الأمم، فتحتل البكورية الروحية وتحسب كنيسة أبكار (عب 12: 23) خلال التصاقها أو اتحادها بالرب البكر. يقول القديس أمبروسيوس: [نري في قايين الشعب اليهودي الملطخ بدم ربهم وخالقهم وأخيهم أيضًا، وفي هابيل نفهم الإنسان المسيحي الملتصق بالله كقول داود: "أما أنا فالاقتراب إلى الله حسن لي" (مز 72: 28)، أي ترتبط نفسه بالسمائيات وتتجنب الأرضيات. وفي موضع آخر يقول: "تاقت نفسي إلى خلاصك" (مز 119: 81)، مما يدل علي أن شريعة حياته كانت متجهة للتأمل في الكلمة (المسيح) وليس في ملذات العالم ].
عندما تحدث الكتاب عن الولادة الجسدية بدأ بقايين البكر جسديًا ثم هابيل، أما وقد تسلم كل منهما عمله المحبوب لديه احتل هابيل مركز الصدارة وكأنه يغتصب من قايين بكوريته، إذ قيل: "وكان هابيل راعيًا للغنم، وكان قايين عاملاً في الأرض" [٢]. وكما يقول القديس أمبروسيوس إن الكتاب المقدس لم يذكر هابيل أولاً بلا هدف بالرغم من مولده بعد قايين وإنما: [ذكر الأصغر أولاً عندما أشار إلى العمل والكفاءة والموهبة لكي ندرك الفارق بين مهنتيهما. فبحسب خبرتنا تأتي فلاحة الأرض وحرثها أولاً لكنها أقل في المركز من رعاية الغنم ]. لعل العمل في الأرض يشير إلى الإنسان الجسداني الذي يركز عينيه وكل طاقاته نحو الأرض والزمنيات، أما رعي الغنم فيشير إلى الإنسان المهتم بالرعاية والتدبير وقيادة الجسد بكل طاقاته (الغنم). لهذا يليق بنا ألا نكون عاملين في الأرض لحساب الجسد وشهواته بل رعاة ندبر الجسد ونرعاه روحيًا لحساب ملكوت الله.
يميز القديس ديديموس الضرير بين عمل هابيل وقايين، فيرى في هابيل كراع للغنم إنه مدبر لحواس جسده وضابط لها، أما قايين فكان عاملاً في الأرض وليس كنوح فلاحًا (تك 9: 20)؛ مميزًا بين العامل في الأرض والفلاح. فالفلاح هو الذي يدبر العمل الزراعي يعرف متي يحرث ومتي يبذر ومتي يحصد بحكمة وتدبير حسن، أما العامل في الأرض فيعمل بلا حكمة ولا تدبير (يقوم بعمل جسدي لا تدبيري). يقول القديس ديديموس: [لم يقل الكتاب عن قايين أنه فلاح بل عامل في الأرض. إذ لم يكن له دور قيادي كما كان لنوح الذي دُعي فلاحًا وليس عاملاً في الأرض (تك 9: 20)... كان هابيل راعيًا للغنم أي مدبرًا للحواس التي يقودها. هذا هو الراعي الممتاز الذي يُخضع لعصاه علمه ويضبط غضبه والشهوة، ويحمل فهمًا كقائد ومدبر. أما قايين فكان يدور في الأرض والأرضيات لا كفلاح بل كعامل في الأرض، كصديق للجسد يسلك بلا تعقل ولا تدبير... يمكن أن ينطبق عليه القول: "لنأكل ونشرب لأننا غدًا نموت" (إش 22: 13؛ 1 كو 15: 32)، أما الذي يعمل هذه الأمور بتدبير إلهي فيطبق المبدأ القائل: "فإذا كنتم تأكلون أو تشربون أو تفعلون شيئًا فافعلوا كل شيء لمجد الله" (1 كو 10: 31) ].
"وحدث بعد أيام أن قايين قدم من أثمار الأرض قربانًا للرب، وقدم هابيل أيضًا من أبكار غنمه من سمانها، فنظر الرب إلى هابيل وقربانه، ولكن إلى قايين وقربانه لم ينظر، فاغتاظ قايين جدًا وسقط وجهه" [3– 5].
لماذا لم ينظر الله إلى قايين وقربانه؟
أولاً: يري القديسان ديديموس الضرير وأمبروسيوس أن تعبير: "وحدث بعد أيام" يشير إلى تراخي قايين في تقدمته أو ممارستها بدافع غير الحب. إذ يقول الأول: [قدم قايين تقدمته بإهمال، أما هابيل فقدمها بإخلاص ]، ويقول الثاني: [جاءت تقدمة قايين بعد أيام... وليست بسرعة واشتياق، لذا جاءت الوصية: "إذا نذرت نذرًا للرب إلهك فلا تؤخر وفاءه" (تث 23: 21)، "إذ نذرت نذرًا لله فلا تتأخر عن الوفاء به... أن لا تنذر خير من أن ينذر ولا تفي" (جا 5: 4، 5) ].
ثانيًا: لعل الله رفض تقدمة قايين لأنها كانت من ثمار الأرض، ولم يقل من "بكور الثمار"، فلم يقدم أفضل ما لديه، أما هابيل فقدم: "من أبكار غنمه من سمانها"... أعطي الله الأولوية‍!
ثالثًا: كانت تقدمة قايين من ثمار الأرض غير القادرة علي المصالحة بين الله والإنسان، أما تقدمة هابيل فكانت ذبيحة دموية تحمل رمزًا لذبيحة السيد المسيح القادر وحده علي مصالحتنا مع الآب خلال بذل دمه عنا.
رابعًا: يري القديس چيروم في حديث الرب مع قايين (الترجمة السبعينية): "إذ لم تقسم بالصواب" أن قايين قدم لله ثمار الأرض ولم يقدم قلبه، أي قدم تقدمة خارجية دون الداخل، فكان التقسيم غير مصيب.
أما كيف عرف قايين أن الله قبل تقدمة هابيل دون تقدمته، فكما يقول القديس ديديموس الضرير: [ربما نزلت نار أكلت التقدمة، كما حدث مع هرون وبنيه، إذ "خرجت نار من عند الرب وأحرقت علي المذبح المحرقة والشحم، فرأي جميع الشعب وهتفوا وسقطوا علي وجوههم" (لا 10: 24)، وكما حدث مع إيليا النبي (1 مل 18: 38-40) .
أما أول ثمار رفض التقدمة فهو: "اغتاظ قايين جدًا وسقط وجهه" [٥]، إذ تفسد الخطية سلام الإنسان وتحطمه ليعيش في غيظ وضيق، كما تنحدر بوجهه ليسقط إلى التراب عوض أن يرتفع نحو السماء، وكما يقول الحكيم: "حكمة الإنسان تنير وجهه" (جا 8: 1)، "القلب الفرحان يجعل الوجه طلقًا وبحزن القلب ينسحق الروح" (أم 15: 13). بالخطية يسقط وجه الإنسان مغمومًا، وبالمسيح يسوع يرتفع متهللاً ليقول: "نحن جميعًا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف" (2 كو 3: 18).
الآن إذ سقط وجه قايين لم يتركه الله هكذا منهارًا بل تقدم إليه يسأله: "لماذا اغتظت؟ ولماذا سقط وجهك؟ إن أحسنت أفلا رفع؟‍‍! وإن لم تحسن فعند الباب خطية رابضة وإليك اشتياقها وأنت تسود عليها" [٧].
حقًا لم يقبل تقدمته لأنها من قلب غير نقي، لكنه لا يتركه في سقوطه بل يتقدم إليه بالحب يحدثه في صراحة ووضوح: "إن أحسنت أفلا رفع؟‍" ، وكأنه يعاتبه، قائلاً: "إن أحسنت ما بداخلك أفلا أرفع وجهك من جديد؟‍ لماذا تستسلم للغيط، ولماذا تترك وجهك ساقطًا؟!‍" وفي تحذير يقول له: "إن لم تحسن فعند الباب خطية رابضة، وإليك اشتياقها، وأنت تسود عليها"، وكأنه يقول له" "إني أري خطية القتل رابضة عند الباب تود أن تتسلل إلى أعماقك مع أنك أنت تسود عليها، أي صاحب السيادة والإرادة، لك أن تقبلها ولك أن ترفضها. أنت لا تزال سيدًا عليها، لكنك إن قبلتها تسود عليك وتحدرك إلى عبوديتها. مادامت عند الباب رابضة فهي ضعيفة، لكن إن تسللت تضعف أنت أمامها وتنحني لها بروح العبودية.
٢. قتل هابيل :
"وكلم قايين هابيل أخاه، وحدث إذ كان في الحقل أن قايين قام علي هابيل أخيه وقتله، فقال الرب لقايين: أين هابيل أخيك؟ فقال: لا أعلم، أحارس أنا لأخي؟‍ فقال: ماذا فعلت؟ صوت دم أخيك صارخ إليَّ من الأرض" [ 8-10].
ظن قايين أنه قتل واستراح، ولكن الله جاء ليسأله كي يثير فيه التوبة، فهو لا يريد أن يستر علي خطايانا بغلاف خارجي بينما يبقي الفساد يدب في الأعماق، إنما كطبيب روحي يريد أن يكشف الجراحات ويفضحها لأجل العلاج. هذا ومن جانب آخر أراد الله أن يؤكد لقايين أنه إله هابيل لا ينساه حتى وإن مدّ أخاه يديه عليه ليتخلص منه، وكما يقول القديس ديديموس الضرير علي لسان الرب: [لا تظن أن جريمتك هربت من عيني، ومن رعايتي التي لا تغفل ]. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [تخلص منه إذ رآه محبوبًا، متوقعًا أن ينزعه عن الحب، لكن ما فعله جعله بالأكثر مثبتًا في الحب، إذ بحث الله عنه، قائلاً: أين هابيل أخوك؟ ].
أخفي قايين جسد أخيه، لكنه لم يقدر أن يكتم صوت النفس الصارخة إلى الله، والتي عبّر عنها الرب بقوله: "صوت دم أخيك صارخ إليَّ من الأرض"، إذ يشير الدم إلى النفس بكونه علامة لحياة. فإن سُفك الدم تبقي النفس صارخة خلال الدم المسفوك ظلمًا علي الأرض. هذا الصوت الصارخ هو صوت كل إنسان يُظلم من أجل الحق فيُحسب شاهدًا للحق أو شهيدًا، تبقي صرخاته تدوي فوق حدود الأرض (المكان) والموت (الزمان). عن هذا الصوت يقول القديس أمبروسيوس: [للدم صوت عال يصل من الأرض إلى السماء ]. فالظلم أو الضيق لا يكتم النفس ولا يلجم لسانها بل بالعكس يجعلها بالأكثر متحدة مع كلمة الله الحيّ المصلوب، فيصير لها الصوت الذي لا يغلبه الموت ولا يحبسه القبر. وكأن سر قوة صوت الدم المسفوك ظلمًا هو اتحاد الإنسان بالمصلوب الحيّ. وقد رأي القديس أكليمنضس الإسكندري في دم هابيل رمزًا لدم المسيح الذي لا يتوقف صوته الكفاري وعمله، إذ يقول: [لم يكن ممكنًا للدم أن ينطق بصوت ما لم تراه خاص بالكلمة المتجسد، فالرجل البار القديم (هابيل) كان رمزًا للبار الجديد (السيد المسيح كلمة الله)؛ وما يشفع به الدم القديم إنما يتحقق خلال مركز الدم الجديد. الدم الذي هو الكلمة يصرخ إلى الله معلنًا أن الكلمة يتألم ].
إن كان قايين قد حطم جسد هابيل بجسده فصمت لسانه تمامًا، لكنه لم يكن ممكنًا أن يلجم لسانه قلبه وصرخاته الداخلية التي يستجيب لها الله سامع التنهدات الخفية. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كان موسى متألمًا وصلي هكذا (بقلبه) وسُمع له، إذ يقول له الله: "لماذا تصرخ إليَّ؟" (خر 14: 15) ومع أنه لم يصرخ بفمه؛ وحنة أيضًا لم يكن صوتها مسموعًا، وحققت كل ما تريده، إذ كان قلبها يصرخ (1 صم 1: 13). وهابيل لم يصلِ فقط وهو صامت وإنما حتى عندما مات أرسل دمه صرخة كانت أكثر وضوحًا من صوت بوق ].
استهان قايين بحياة أخيه هابيل، وإذ به يستهين بالله نفسه في حديثه معه، فإن كل خطية تصوب نحو أخوتنا تدفعنا للخطأ في حق الله نفسه. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ليته لا يحتقر أحدنا الآخر، فإن هذا عمل شرير يعلمنا الاستهانة بالله نفسه. فبالحقيقة إن أزدري أحد بالأخر إنما يزدري بالله الذي أمرنا أن نظهر كل اهتمام بالغير... لقد احتقر قايين أخاه، وفي الحال استهان بالله ].
إن كان عصيان آدم وحواء قد حمل تأديبًا ملموسًا يذّكر البشرية مرارة عدم الطاعة، فإن جريمة القتل الأولى قدمت لقايين تأديبًا ماديًا ملموسًا يكشف له عما حلّ به في أعماقه، إذ قيل له: "متى عملت الأرض لا تعطيك قوتها" [١٢]. بسبب جريمته حلّ بالأرض نوع من القفر لتكشف عن أرض الإنسان أي جسده الذي صار بالخطية قفرًا، لا يقدم ثمرًا روحيًا لائقًا. ويعلق القديس ديديموس الضرير على هذا التأديب الإلهي بقوله: [يحدث أحيانًا أنه بسبب خطايا الإنسان تصير الأرض قفرًا ولا تعطي ثمرًا، كالقول: "تنوح الأرض بسبب الساكنين فيها" (هو ٤: ٣). لقد وهبت الأرض لكي تثمر للذين يحتفظون بفهمهم بغير فساد... لكن الثمر يتناقص بأمر الرب (بسبب فساد الإنسان) حتى يتغير الناس عن حالهم ].
إن كانت الأرض تشير إلى الجسد الذي يفقد عمله الأصيل فيصير بلا ثمر روحي، فإن النفس أيضًا تفقد سلامها الداخلي، إذ قيل له: "تائهًا وهاربًا تكون في الأرض" [١٢]. وكأن النفس التي خضعت للجسد الترابي الأرضي تجده قفرًا، فتعيش فيه بلا راحة ولا سلام، إنما في حالة تيه وفزع. هذا ما أكده الكتاب المقدس بقوله: "خرج قايين من لدن الرب، وسكن في أرض نود شرقي الأردن" [١٦]. أي تخرج النفس من حضن ربها مصدر سلامها لتسكن في "نود" التي تعني "التيه" أو "الاضطراب". وكما يقول القديس ديديموس الضرير: ["نود" تعني "اضطراب". هناك كان يجب أن يسكن من ترك الفضيلة الهادئة ودخل إلى الاضطراب ]. ويقول القديس چيروم: [ترجمة "نود" هو "تيه"، فإذ اُستبعد قايين من حضرة الله سكن بالطبيعة في نود وصار تائهًا. هكذا اليهود إذ صلبوا الله ربهم تاهوا هنا وهناك وصاروا يلتمسون خبزهم. لقد تفرقوا في العالم ولم يبقوا في أرضهم. انهم يشحذون الغنى الروحي إذ ليس لهم أنبياء، وصاروا بلا ناموس ولا كهنة ولا ذبيحة، صاروا شحاذين بمعنى الكلمة ]. أما سر التيه فهو الخروج من لدن الرب [١٦]؛ ليس خروجًا مكانيًا إنما هو خروج عن الشركة معه والتمتع به. وكما يقول القديس ديديموس الضرير: [لا نفهم أن قايين خرج بعيدًا عن الرب مكانيًا، إنما نقول أن كل خاطئ هو خارج الرب بنفس المعنى الذي يحمله التعبير "أدخل نحو الرب" عندما يقول المزمور: "ادخلوا إلى حضرته بترنم" (مز ١٠٠: 2). فعندما ندخل إلى حضرته نترك عنا كل ما هو خارجي أي الخطايا وكل الملموسات، حتى ننعم بأمور أخرى ليست من هذا العالم، لنشترك في معرفة الله... الله ليس بخاضع لمكان بالرغم من إقامة هيكل له... لقد خرج قايين لأنه حسب نفسه غير مستحق لمعاينة وجه الرب، بمعنى أنه لم يعد له فكر الرب ]. ويرى القديس باسيليوس الكبير أن أقسى عقوبة يسقط تحتها الإنسان حرمانه من حضرة الرب: [أقسى أنواع العقوبة التي تفرض على ذوي القلوب الصالحة هي التغرب عن الله ].
أدرك قايين خطورة ما بلغ إليه حاله، فاعترف للرب: "ذنبي أعظم من أن يحتمل. إنك قد طردتني اليوم من وجه الأرض من وجهك اختفي وأكون تائهًا وهاربًا في الأرض، فيكون كل من وجدني يقتلني. فقال له الرب: لذلك كل من قتل قايين فسبعة أضعاف يُنتقم منه، وجعل الرب لقايين علامة لكي لا يقتله كل من وجده" [١٣– ١٥].
واضح من اعتراف قايين أنه شعر بالندم ليس كراهية في الخطية وإنما خوفًا من العقاب الأرضي، ومع هذا فقد فتح الرب باب الرجاء إذ لم يعده بألا يُقتل وإنما من يقتله يعاقب بمرارة شديدة كمن يُنتقم منه سبعة أضعاف، مقدمًا له علامة حتى لا يقتله كل من وجده، هكذا يبدأ الرب مع قايين بالحب لعل قايين يرتمي من جديد في حضن الله بالتوبة الصادقة والرجوع إليه.
يرى القديس باسيليوس الكبير أن قايين أخطأ، واستحق أيضًا سبعة تأديبات، أم خطاياه السبع فهي: [ حسده لأخيه هابيل، كذبه على الله، خداعه لهابيل إذ استدرجه إلى الحقل، ما هو أبشع من قتل أخاه، قدم قدوة سيئة للبشرية في بدء تاريخها، أخطأ في حق والديه بقتل إبنهما]. أما التأديبات السبعة فهي: [بسببه لُعنت الأرض، صارت الأرض عدوة له يعيش عليها كمن مع عدوه، لا تعطيه الأرض قوتها، يعيش في تنهد، يصير في رعب، يُطرد تائهًا، يتغرب عن وجه الرب].
أما العلامة التي قدمها الله لقايين حتى لا يقتله كل من وجده فربما تشير إلى علامة الصليب التي فيها يختفي الخاطئ لجد أمانًا وسلامًا خلال مصالحته مع الله. هذه هي العلامة التي يوسم بها أولاد الله الذين لا يطيقون الرجاسات فتحفظهم من الهلاك المهلك كما رأى حزقيال النبي (حز ٩: ٦). ويرى القديس أغسطينوس أنها علامة العهد الذي وُهب لرجال العهد القديم كظل للصليب، معلنًا في ناموسهم وطقوسهم، إذ يقول: [هذه العلامة لليهود إذ أمسكوا بناموسهم واختتنوا وحفظوا السبوت وذبحوا الفصح وأكلوا خبزًا غير مختمر ].
٣. أولاد قايين :
إن كان الله قد فتح باب الرجاء أمام قايين بالرغم من بشاعة ما ارتكبه من شر ضد الله والناس، عوض الرجوع إليه بالتوبة ليسترد سلامه أقام مدينة دعاها باسم ابنه "حنوك" [١٧]، حتى لا يعيش أولاده مثله تائهين. وكأنه يكرر ما فعله والداه من قبله إذ خاطا لنفسيهما مآزر من أوراق التين (تك ٣: ٧). تستر عريهما مع بقاء الفساد الداخلي بلا علاج.
هذه هي أول مدينة بناها الإنسان لنفسه ليحتمي فيها من قرارات الله وتأديباته، بل بالحري يحتمي من التيه الذي جلبه لنفسه بنفسه لهذا يقول القديس چيروم: [المدينة العظيمة التي بناها قايين أولاً ودعاها باسم أبنه تؤخذ رمزًا لهذا العالم الذي بناه الشيطان بالرذيلة ودعمه بالجريمة وملأه بالشر ]. ويقول القديس أغسطينوس: [لقد سُجل أن قايين بنى مدينة، أما هابيل فكعابر لم يبن شيئا، لأن مدينة القديسين فوق، وإن كانت تنجب لها مواطنين هنا أسفل لكي يرحلوا في الوقت المناسب ويملكوا، عندما يجتمعون في يوم القيامة ويُعطى لهم الملكوت الموعود به، الذي فيه يملكون مع رئيسهم وملك كل الدهور، آمين ].
إن كان قايين قد أنجب "حنوك" مقدمًا له مدينة ترابية تحميه من التيه، عوض البركة الروحية، فإن الكتاب يسجل لنا سلسلة مواليد قايين حتى يصل إلى لامك ليقدمه لنا كزوج لامرأتين هما عادة وصلة. أنجب من الأولى يابال ويوبال، ومن الثانية توبال وأخته نعمة. ويرى القديس چيروم أن لامك لم تكن له حواء واحدة بل أول من تزوج بامرأتين إشارة إلى عمل الهراطقة الذين يقسمون الكنيسة إلى كنائس منحرفة عن الإيمان على أي الأحوال إن كان قايين قد قدم أبشع مثل للجريمة في بدء تاريخ البشرية بقتله أخيه ظلمًا، فإن ثمرة الشر هي الهرطقة التي تفسد كنيسة الله وتحرف الإيمان، بل وتدفع إلى الإحاد، وكما يقول القديس أغسطينوس: [وراء كل إلحاد شهوة].
يرى البعض في حياة لامك مع هاتين المرأتين أنها تمثل الحياة الوثنية أو البعد عن الله، فإن كانت "عادة" في العبرية تعني "جمال" أو "زينة"، و"صلة" تعني "ظل"، فإن الأولى تشير إلى شهوة العين، والثانية تشير إلى "شهوة الجسد". الأولى بجمالها أو زينتها تغوي العين عن التطلع إلى السمويات، والثانية كظل تسحب النفس للعبودية لشهوات الجسد الذي لا يمثل إلاّ ظلاً يختفي، أي تسحبها للأمور الجسدانية الزمنية المؤقتة.
في اللغة الأشورية "عادة" مأخوذة من "عدهاتو" وتعني "ظلام"، وأما "صلة" فمشتقة من "ظلاتو" وتعني "ظلال الليل"، وكأن لامك اختار في شره أن يتحد مع الظلام وظلال الليل خلال حياته الشريرة.
قبل أن نتحدث عن المثل الذي نطق به لامك لامرأتيه نذكر معاني الأسماء الواردة في هذا الأصحاح:
أ. عيراد بن حنوك؛ كلمة "عيراد" مشتقة من الكلمة العبرية "عير" وتعني "مدينة"، ربما لأن قايين كان يبني المدينة الأولى في العالم التي دعاها باسم أبنه حنوك. ويرى البعض أن كلمة "عير" في العبرية تعني "جحش" أو "حذر".
ب. محويائيل بن عيراد، أسمه يعني "مضروب من الله".
ج. متوشائيل بن محويائيل، إسمه عينه "بطل الله" أو "رجل الله".
د. لامك، يعني "قوي".
قدم لامك لامرأتيه أول قطعة شعرية في الأدب العبري، تسمى "أغنية السيف للامك"، جاء فيها "أسمعا لقولي يا امرأتي لامك، وأصغيا لكلامي، فإني قتلت رجلاً لجرحي وفتى لشدخي. إنه ينتقم لقايين سبعة أضعاف وأمّا للامك فسبعة وسبعين" [٢٣، ٢٤]. خلال هذه الأغنية نشتم روح الافتخار والاعتداد بالذات بالدفاع عن النفس والثقة في قوة الإنسان وعنفه، إذ يرى البعض أن لامك يعلن لامرأتيه أنه يستخدم السيف الذي اخترعه ابنه توبال والذي قيل عنه "الضارب كل آلة من نحاس وحديد" [٢٢]، يستخدمه في دفاعه عن نفسه؛ لهذا فيحسب نفسه بريئا إن قتل إنسانًا مادام ليس بقصد القتل وإنما دفاعًا عن نفسه. إن كان قايين كقاتل أخيه ينتقم له سبعة إضعاف فإن لامك كمدافع عن نفسه ينتقم له سبعة وسبعين.
توجد تفاسير كثيرة لهذه الأغنية فالبعض يرى أن لامك شاخ جدًا وصار ضعيف البصر وإذ كان حفيده يقوده وكان محبًا للصيد أشار له حفيده عن صيد فضرب بالسهم فإذا به يقتل جده قايين عن غير قصد، وإذ صرخ الحفيد معلنًا قتل قايين ضرب لامك الفتى فقتله، لذلك قال "قتلت رجلاً (قايين) لجرحي، وفتى لشدخي". وأدرك إنه كقاتل لابد أن يُقتل، لكنه إذ قتل بغير عمد ينتقم له الرب سبعة وسبعين.
يرى البعض أن رقم ٧٧ يذكرنا بنسب السيد المسيح كما ورد في إنجيل لوقا (٣: ٢٣– ٣٨) فإنه ينتقم للخطية أو يُقتص العدل بمجيء المخلص الذي يدفع الثمن كاملاً على الصليب.
٤. ميلاد شيث :
عندما اقتنت حواء "قايين" ظنت فيه بركة للأجيال كلها، لكن سرعان ما فسدت حياته وقتل أخاه البار... فلم يترك الله حواء منكسرة الخاطر، بل وهبها بداية جديدة بإنجاب "شيث" عوض "هابيل". معنى "شيث" في العبرية "عوض" أو "معيّن" وكأن الله جبله عوض هابيل وعينه رأسًا لجيل مقدس. وبالفعل انجب شيث "أنوش" الذي يعني "إنسانًا"، "وحينئذ أبتدئ أن يُدعى باسم الرب" [٢٦]..

descriptionتفسير العهد القديم(التكوين- الاصحاح 2) Emptyرد: تفسير العهد القديم(التكوين- الاصحاح 2)

more_horiz



5- الأصحاح الخامس
الموت
بالخطية دخل الموت الروحي كما الجسدي إلى حياة الإنسان، فمهما طال عمر الإنسان على الأرض لا يستطيع الهروب من الموت... لأنه "بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع" (رو ٥: ١٢). لكن وسط هذه الصورة القاتمة وُجد أخنوخ الذي انتقل إلى الله بكونه بارًا.
١. مواليد آدم (وموتهم) ١ – ٢٠.
٢. أخنوخ البار ٢١ – ٢٤.
٣. متوشالح ٢٥ – ٢٧.
٤. نوح ٢٨ – ٣٢.
١. مواليد آدم (وموتهم) :
قبل أن يبدأ الحديث عن تجديد العالم خلال الطوفان والفلك قدم لنا الوحي الإلهي سلسلة مواليد آدم، مبتدأ بآدم لينتهي بنوح حيث يبدأ العالم من جديد خلال معمودية الطوفان.
قدم إدرشيم Edershein الجدول التالي من آدم حتى تجديد العالم (نوح) :

الاسم عمره عند عمره عند سنة ميلاده بالنسبة سنة موته بالنسبة
ولادة الابن موته لتاريخ العالم لتاريخ العالم
آدم ١٣٠ ٩٣٠ ١ ٩٣٠
شيث ١٠٥ ٩١٢ ١٣٠ ١٠٤٢
أنوش ٩٠ ٩٠٥ ٢٣٥ ١١٤٠
قينان ٧٠ ٩١٠ ٣٢٥ ١٢٣٥
مهللئيل ٦٥ ٨٩٥ ٣٩٥ ١٢٩٠
يارد ١٦٢ ٩٦٢ ٤٦٠ ١٤٢٢
أخنوخ ٦٥ ٣٦٥ ٦٢٢ ٩٨٧
متوشالح ١٨٧ ٩٦٩ ٦٨٧ ١٦٥٦
لامك ١٨٢ ٧٧٧ ٧٨٤ ١٦٥١
نوح ٥٠٠ ٩٥٠ ١٠٥٦ ٢٠٠٦

ويلاحظ في هذه السلسلة من الأنساب:
أ. لم يذكر هابيل الذي استشهد قبل أن يكون له نسل، فإن كان ذكره على الأرض قد انتهي بعدم الإنجاب، لكن صوته لم يتوقف بعد كقول الرسول: "وإن مات يتكلم بعد" (عب ١١: ٤). كما تجاهل ذكر قايين وذريته الذي حكم على نفسه بنفسه بالموت وهو حيّ.
ب. مع أن الإنسان بشر فقد شبهه لله، مع ذلك ففي بداية سلسلة الآباء يقول: "يوم خلق الله الإنسان على شبه الله عمله" [١]. فإن كان الإنسان قد تدنس بالإثم، لكن الله يترجى أن يرده مرة أخرى إلى صورته الأصلية التي خلقه عليها... ولعل غاية هذه السلسلة أن تقدم لنا في النهاية شخص المخلص الذي يقوم بهذا العمل فينعم المؤمنون بهذه العطية، أي حملهم شبه الله فيهم.
ج. إذ يذكر ميلاد شيث يقول "وولد (آدم) ولدًا على شبهه كصورته ودعا اسمه شيثًا" [٣]، أي "إنسانًا". ولعله يقصد بحمله شبه صورة أبيه وصورته، إنه حمل نفس الرجاء الذي لأبيه آدم في التمتع بالخلاص الموعود به، وليس كقايين الذي عاش بلا رجاء تائهًا في الأرض.
د. يلاحظ أيضًا في سلسلة الآباء جاء أخنوخ من نسل شيث الذي "سار مع الله ولم يوجد لأن الله أخذه" [٢٤]، ولعله يقابل "حنوك (أخنوخ)" الله من نسل قايين، على أسمه بُنيت أول مدينة على الأرض... وكأن الله أقام نسلاً يحمل السمة السماوية عوض النسل المرتبط بالأرضيات. وبنفس الفكر نجد لامك هنا السابع من نسل شيث يلد نوحًا علامة النياح الروحي والراحة في الرب، عوض لامك السابع من نسل قايين الذي تزوج بامرأتين هما الظلمة وظل الليل كما رأينا وقد أتسم بالعنف... بمعنى آخر إن كان عدو الخير يبذل كل طاقاته لإفساد البشرية لحساب مملكته، فإن الله يقيم له شهودًا في كل جيل أحباء له ينعمون بشركة أمجاده.
هـ. من جهة أعمار هؤلاء الآباء: حاول كثير من الدارسين تقديم تفاسير مختلفة فمنهم من قال أن الأرقام في العبرية قديمًا كانت غامضة ويصعب ترجمتها، وآخرون قالوا أن الأعمار المذكورة لا يقصد بها الآباء وإنما تعني عمر عشائرهم... على أي الأحوال الكتاب المقدس ليس بالكتاب التاريخي ولا يهدف بكلماته الإلهية تسجيل تاريخ الإنسان بمفهومنا الحرفي، وإن كنا لا ننكر دقته وإمكانية الحياة الطويلة في بداية الخليقة.
و. لعل غاية هذه السلسلة تأكيد أن الإنسان وإن طال عمره لكنه يموت، مسلمًا ابنه الوعد بالخلاص ليترقب الحياة الجديدة التي لا يغلبها الموت.
٢. أخنوخ البار :
بين هذه السلسلة من الأنساب وُجد إنسان واحد لم تختم حياته بعبارة "ومات"، إنما قيل عنه "ولم يوجد لأن الله أخذه" [٢٤]، هذا الذي "قبل نقله شُهد له بأنه أرضي الله" (عب ١١: ٥). فإن كانت الأنساب الأخرى تمثل البشرية المؤمنة التي تمتعت بالرجاء في مجيء المخلص الموعود به لينقلها من الموت إلى الحياة، فإن "أخنوخ" يمثل أعضاء الكنيسة التي لا تعاين الموت عند مجيء ربنا يسوع بل ترتفع معه على السحاب لتنعم مع بقية الأعضاء بالحياة الأبدية المجيدة (١ تس ٤: ١٤– ١٧).
لعل ما ورد عن أخنوخ هنا وسط سلسلة الآباء، تأكيد أن سرّ سعادة الإنسان ليس طول بقائه على الأرض وإنما انتقاله إلى حضرة الرب ليعيش معه وجها لوجه.
وكأن "أخنوخ" يمثل استرداد الإنسان لحالته الأولى الفردوسية، بانطلاقه من الأرض التي فسدت إلى مقدس الله. وكما يقول يهوذا الرسول: "وتنبأ عن هؤلاء أيضًا أخنوخ السابع من آدم قائلاً: "هوذا قد جاء الرب في ربوات قديسيه، ليضع دينونة على الجميع ويعاقب جميع فجورهم على جميع أعمال فجورهم التي فجروا بها على جميع الكلمات الصعبة التي تكلم بها عليه خطاة فجار" (يه ١٤: ١٥). انتقال أخنوخ إلى الله هي نبوة عملية عن الحياة الأبدية وشهادة ضد الأشرار ودينونتهم العتيدة، بجانب نبوته النطقية التي تسلمتها الكنيسة اليهودية خلال التقليد الشفوي وسجلها الرسول يهوذا.
أخنوخ يمثل القلب الذي يتحد مع الذي ويصير موضع سروره ورضاه في المسيح يسوع الابن المحبوب، فلا يمكن للموت (الروحي) أن يجد له فيه موضعًا، بل يكون في حالة انطلاق مستمر نحو الأبدية، لا يقدر العدو أن يمسك به أو يقتنصه.
لم نعرف عن حياة أخنوخ شيئًا سوي هذه العبارة "وسار أخنوخ مع الله ولم يوجد لأن الله أخذه" [٢٤]، إذ لم يذكر لنا الكتاب شيئًا عن تصرفاته أو مثلاً لمعاملاته، لكنه بحياته الخفية سحب قلوب الكثيرين عبر الأجيال نحو التوبة والحياة مع الله. يقول أبن سيراخ: "نُقل أخنوخ كمثال للتوبة لجميع الأجيال" (٤٤: ١٦). ورأى فيه القديس أمبروسيوس صورة للحياة الرسولية التي لا يهزمها الموت إذ يقول: [حقًا لم يعرف الرسل الموت كما قيل لهم: "الحق الحق أقول لكم إن كثيرين من القيام ههنا لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الإنسان قادمًا في ملكوته" (راجع مت ١٦: ٢٨). فمن ليس بداخله شيء يموت (يحيا أبديًا)، هذا الذي ليس فيه من مصر (رمزيًا) أي نعل أو رباط، إنما خلع عنه هذا كله قبل تركه خدمة الجسد. ليس أخنوخ وحده هو الحيّ ولا وحده أُخذ إلى فوق، إنما بولس أيضًا ارتفع ليلتقي بالمسيح ].
بنفس الفكر يرى القديس كبريانوس مثلاً حيًا للمنتقلين إلى الرب سريعًا إذ تركوا عنهم محبة الزمنيات: [إنك تكون (كأخنوخ) قد أرضيت الله إن تأهلت للانتقال من عدوى العالم. لقد علّم الروح القدس سليمان أن الذين يرضون الله يؤخذون مبكرين ويتحررون سريعًا لئلا بتأخيرهم في هذه العالم يتدنسون بوبائه. وكما قيل: "خطفه لئلا يغير الشر عقله، إنه كان مرضيًا لله فأحبه وكان يعيش بين الخطاة فنقله" (حك ٤: ١٠، ١١). وفي المزامير تسرع النفس المكرمة لإلهها نحوه قائلة: "ما أحلى مساكنك يارب الجنود، تشتاق بل تتوق نفسي إلى ديار الرب" (مز ٨٤: ١) ].
ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن "أخنوخ" فاق هابيل في إيمانه، إذ يقول: [فاق هذا الرجل هابيل في إيمانه. ربما تسأل كيف؟ لأنه بالرغم من مجيئه بعده فإن ما أصاب هابيل كان كافيًا بصده عن سعيه... ومع هذا لم يدخل أخنوخ إلى اللامبالاة، ولا قال في نفسه: ما الحاجة إذن إلى التعب؟! ]. كان أخنوخ عظيمًا في إيمانه، فمع عدم رؤيته أمثلة حية يحتذي بها، ومع سماعه ما حدث مع هابيل عاش مع الله يسلك بالبر فاستحق أن يأخذه الله.
٣. متوشالح :
"متوشالح" اسم سامي معناه "رجل السلاح"، ابن أخنوخ، مات في سنة الطوفان وكان عمره ٩٦٩ عامًا، أطول عمر ذكر في الكتاب المقدس... لكنه وإن طال عمره فقد انتهى بالموت. وكما يقول القديس چيروم: [حتى إن عشنا تسعمائة سنة أو أكثر كما كان الناس قبل الطوفان، ولو وُهب لنا أيام متوشالح لكن هذه الفسحة من الزمن الطويل عندما تعبر وتنتهي تُحسب كلا شيء. فإن عاش الإنسان عشرة سنوات أو ألفًا من السنين، عندما تنتهي الحياة ويتحقق الموت المحتوم يُحسب الماضي – طال أو قصر – واحدًا، غير أن الذي عاش مدة أطول يُثقل بخطايا أكثر يحملها معه ].
٤. نوح :
خلال نسب الآباء أعلن الوحي ميلاد "نوح" بكونه علامة "النياح" أو "الراحة" التي يتمتع بها العالم بتجديده بمياه الطوفان... الأمر الذي يعرضه الكتاب في الأصحاحات التالية بشيء من التفصيل. وقد جاء نسل نوح: "سام وحام ويافث" [٣٢] كرؤوس لكل شعوب الأمم بعد الطوفان..

privacy_tip صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
power_settings_newقم بتسجيل الدخول للرد