وهذه هي الحكمة من الصوم . أن منع النفس عن الكل ، يمتد إلي أن يصير منعاً عاماً عن كل ما يغضب الله … فلا يكفي أن تمنع نفسك عن الأطعمة الحيوانية ، أو عن الكل عموماً ، وتبقي بلا ضابط في خطايا معينة ! إنما في صومك قدم إرادتك لله في كل تصرفاتك وقل له " لتكن لا إرادتي بل إرادتك "
إبحث إذن أين تشرد إرادتك بعيدا عن الله .
وركز علي هذه النقطة بالذات لكي تنجح فيها ، وتقدم لله إرادة صالحة ترضيه وهذا التدريب الذي تسلك فيه أثناء الصم ، وف يصحبك بعده أيضاً . لأنه من غير المعقول أن تضبط نفسك في البعد عن خطايا معينه أثناء الصوم ، ثم تبيح هذا الأمر لنفسك عندما ينتهي الصوم ! وإلا فما الذي تكون قد استفدته من صومك ؟!
أحرص أن يكون الصوم قد غير فيك شيئاً .
لا تأخذ من الصوم مجرد تغيير الطعام ، إنما تغيير الحياة إلي أفضل … تغيير النقائص التي فيك ، والضعفات التي تحسها في علاقتك مع الله و الناس . لأنه ماذا تستفيد أن قهرت نفسك خلال خمسة وخمسين يوماً في الصوم الكبير ، وخرجت من الصوم كما كنت تماماً قبله ، دون أن تكون علاقة حب مع الله ، وعلاقة حب مع الله ، وعلاقة ثابت فيه ؟!
تأمل كم صوماً مر عليك ، وأنت كما !
كم هي الأصوام ، التي صمتها ، منذ أن عرفت الله حتي الآن ؟ كم سنة مرت عليك ، وفي كل سنة عدد من الصوام ، مع أربعاء وجمعة في كل أسبوع . تأمل لو كنت في كل صوم منها تنجح إرادتك ، ولو في الانتصار علي نقطة ضعف معينه حتي تصطلح مع الله فيها وتذوق حلاوه مشيئته … تري لو سلكت هكذا ، كم كنت تري حصاد حياتك وفيراً في الروحيات ، وكم كانت علاقتك بالله تزيد وتتعمق ….
لا تأخذ من الصوم شكلياته ، بل ادخل إلي العمق .
فليس الصوم مجرد شكليات ورسميات ، ولا هو مجرد فروض أو طقوس ، إنما هو نعمة أعطت لنا من الله ، ونظمتها الكنيسة لخيرنا الروحي . لأجل تنشيط أرواحنا ، وتذكيرنا بالمثالية التي ينبغي أن نسلك فيها ، وتدريبنا علي " القداسة التي بدونها لا يعاين أحد الرب "( عب 12: 14) .
الصوم إذن فترة مقدسة مثالية غير عادية .
يحتاج إلي تدبير روحي من نوع خاص يتفق مع قدسيتها . حالماً يبدأ الصوم نشعر أننا دخلنا في حياة لها سموها ، وفي أيام غير عادية نتدرب فيها علي حياة الكمال . ولذلك لا يجوز أن تمر علينا شأنها كباقي الأيام …. إنها صفحة جديدة في علاقتنا مع الله ، ندخلها بشعور جديد وبروح جديدة … حقاً إن كل أيام حياتنا ينبغي أن تكون مقدسة . ولكن فترة الصوم هي أيام مقدسة غير عادية . وإن سلكنا فيها حسناً ، سنصل غلي قدسية الحياة كلها … إنها فتره نتفرغ فيها لله علي قدر إمكاننا ، ونعمق علاقتنا به .
هل سمعتم عن الصوم الذي يخرج الشياطين ؟
وكيف قال الرب عن الشياطين " هذا الجنس لا يخرج إلا بالصلاة والصوم ( مت 17: 21) . فأي صوم هذا الذي لا تستطيع الشياطين أن تحتمله فتخرج ؟ أهو مجرد الامتناع عن الطعام ؟ كلا بلا شك . بل إنها العلاقة القوية التي تربط الصائم بالله ، هذه التي لا يحتملها الشيطان … الدالة التي بين الإنسان والله ، دالة الحب وصلة الروح التي حرم منها الشيطان ، ما ان يراها حتي يتعب ويذهب … القلب الملتصق بالله في الصوم ، هذا يراه الشيطان فيهرب .
فهل قلبك ملتصق بالله في الصوم ؟
هل تعطية قلبك كما تعطية إرادتك ؟ وهل تشعر بحبه أثناء الصوم ؟ هل هذا الحب طابع واضح في صلواتك وتاملاتك اثناء الصوم ؟ وهل من أجل محبته نسيت طعامك وشرابك ، ولم تعد تهتم بشيء من هذا ؟
وكأنك تقول لجسدك أثناء صومك :
أنا لست متفرغاً لك الآن . أكلت أو لم تأكل ، هذا موضوع لم يعد يشغلني أو يهمني …. " لكل شئ تحت السموات وقت " . وليس هذا هو وقتك … أنا الآن مشغول بعمل روحي مع الله . فتعال اشترك معنا ، أن أردت أن يكون لك كيان في هذا الصوم . أما الطعام فليس الان مجاله . طعامي الآن هو كل كلمة تخرج من فم الله . هذه هي مشاعر من يقول في صومه مع القديس يوحنا الرائي :
كنت في الروح في يوم الرب ( رؤ 1: 10) .
ولا شك أن يوم الصوم هو يوم للرب . فهل انت " في الروح " أثناء صومك ؟ هل نسيت جسدك تماماً بكل ماله من رغبات ومطالب واحتياجات ، وفضلت أن تحيا في الروح خلال فترة الصوم ؟ ليس للجسد عندك سوي الضروريات التي لا قيام له بدونها … وكأنك تقول مع بولس الرسول " في الجسد أم خارج الجسد ، ليست أعلم . الله يعلم "( 2كو 12: 3) .
هل يكون فكرك منشغلاً بالله في صومك ؟
في أثناء القداس الإلهي ينادي الأب الكاهن قائلاً " أين هي عقولكم "؟ ويجيب الشعب " هي عند الرب " . وانا اريد ان أسأل نفس السؤال أثناء الصوم " أين هي عقولكم " ؟ أتستطيع ان تجيب " هي عند الرب "؟ أليس الصوم فترة مقدسة لله ، مخصصة له ، يجب فيها ان ينشغل الفكر بالله وحده ؟ افحص يا أخي نفسك ، وأبحث عن أفكارك اين هي أثناء الصوم .
هل مشاغل الدنيا تملأ فكرك اثناء الصوم ؟
فأنت في دوامه العمل ، وفي دوامة الأخبار ، وفي دوامة الأحاديث مع الناس ، لا تجد وقتاً لله تعطيه فيه فكرك ! وربما تصوم حتى الغروب ، وفكرك ليس مع الله ، قد أرهقه الجولان في الأرض و التمشي فيها …! وربما تفكر في التافهات ، وتتكلم عن التافهات ، والله ليس علي فكرك ، ولا تذكره إلا حينما تجلس لتآكل ، فنصلي قبل الأكل ، وتذكر الله وتذكر انك كنت صائماً ! هل هذا صوم روحي يريح ضميرك ؟! ليتك إذن تذكر قول داود النبي :
جعلت الرب أمامي في كل حين .
هو امامي في كل عمل أعمله ، وفي كل كلمة أقولها .إنه شاهد علي كل شئ . وأيضاً جعلته أمامي لأنه هدفي الذي لا أريد أن اتحول عنه لحظه واحدة وهو امامي لأنني من أجله وحده أصوم لكي لا أنشغل عنه بل اجعله أمامي كل حين … أن كنت في الأيام العادية ، ينبغي أن تضع الله أمامك في كل حين ، فكم بالأكثر في فترات الصوم التي هي مخصصة لله ومقدسة له ؟
إن كان الله ليس علي فكرك ، فلست صائماً .
يوم الصوم الذي لاتفكر فيه في الله ، اشطبه من أيام صومك ، إنه لا يمكن أن يدخل تحت عنوان " قدسوا صوماً" … ولكن لعل البعض يسأل : كيف يمكنني تنفيذ هذا الأمر ، وأنا أعيش في العالم ، ولي مسئوليات كثيرة ينبغي أن أفكر فيها ؟
إذن إحفظ التوازن ، وأمامك ثلاث قواعد :
1- لا تجعل مسئولياتك تطغي ، بحيث تستقطب كل أفكارك ، ولا تبقي في ذهنك موضعاً لله .. أجعل لمسئولياتك حدوداً ، وأعط لربك مجالاً .
2- كل فكر لا يرضي الله إبعده عنك ، فهو لا يتفق مع المجال القدسي الذي تعيش فيه . وكما يقول القديس بولس الرسول " مستأسرين كل فكر لطاعة المسيح "( 2 كو 10: 5) . لذلك لا تنجس صومك بفكر خاطئ . فالفكر الذي يطيع المسيح استبقه معك ، والذي لا يطيع اطرده عنك .
3- إشرك الله معك في أفكارك ، وفي أهداف أفكارك . وقل :
أنا من أجل الله أفكر في هذا الموضوع .
أنت تفكر في مسئولياتك . حسناً تفعل . ولكن لا تجعلها منفصلة عن الله . الله هو الذي أعطاك هذه المسئوليات . وأنت من أجل تفكر فيها . ولا يكون فكرك فيها منفصلاً عن الله … من أجل الله تفكر في شئون عملك . ومن أجله تفكر في دروسك ومذكراتك . ومن اجله تفكر في خدمتك وفي مسئوليتك العائلية . بشرط أن هذا التفكير كله لا يبعدك عن الله الذي هو الأصل والأساس . فكر في مسئولياتك العائلية . بشرط أن هذا التفكير كله لا يبعد عن الله الذي هو الأصل والأساس . فكر في مسئولياتك . وقل للرب أثناء ذلك :
إشترك في العمل مع عبيدك .
طالب مثلاً يذاكر أثناء الصيام . والله يشترك معه . هو يذاكر والله يعطيه الفهم ، ويثبت المعلومات في ذهنة وفي ذاكرته . وهذا التلميذ يقول للرب " أنا يارب لا أستطيع أن أفهم من ذاتي . أنت تجلس معي وتفهمني ،و أشكرك بعد ذلك لأنك كنت معي … وأنا أذاكر يارب ، ليس من اجل العلم ، ولا من أجل مستقبلي ، إنما من أجلك أنت ، لكي يعرف الكل أن أولادك ناجحون ، وأن كل عمل يقومون به يكونون أمناء فيه ، ويكون الرب معهم ويأخذ بيدهم ، فيحبك الناس بسببهم ..." تقول لله : من أجلك آكل ، ومن أجلك أصوم .
من أجلك آكل ، لكي آخذ قوة أقف بها في الصلاة ، وأسهر بها في التأمل ، وأخدم بها أولادك ، ويأخذ بها الناس فكرة أن أولادك أمناء في عملهم وأنا اصوم ، لكي يمكن لروحي أن تلتصق بك دون عائق من الجسد . هكذا تكون في الصوم مع الله في كل عمل تعمله .
وتدخل في شركة مع المسيح الذي صام .
تشترك معه في الصوم ، علي قدر ما تستطيع طبيعتك الضعيفة أن تحتمل . هو صام عنك ، فعلي الأقل تصوم عن نفسك . وهو قد رفض هذا الخبز المادي ، وأنت تشترك معه في رفض هذا الطعام البائد . وهو كان يتغذي بحبه للآب وعشرته معه ، وأنت أيضاً تكون كذلك . وهو انتصر علي الشيطان أثناء صومه ، وأنت تطلب إليه ان يقودك في موكب نصرته …
وبهذا يكون الصوم فترة غذاء روحي لك .
أخطر ما يتعب البعض في الصوم ، أن يكون الجسد لا يتغذي و الروح أيضاً لا تتغذي وهذا الوضع يجعل الصوم فترة حرمان أو تعذيب ، وليس هذا هو المعني الروحي للصوم . بل إن هذا الحرمان يعطي صورة قاتمه للصوم ، إذ يقتصر علي حرمان الجسد ( سلبياً ويترك غذاء الروح من الناحية الإيجابية .
وغذاء الروح معروف وهو :
الصلاة ، والتأمل ، وقراءة الكتاب المقدس ، وكل القراءات الروحية كأقوال الآباء وسير القديسين ، والألحان والتسابيح ، والإجتماعات والأحاديث الروحية و المطانيات ،… وما أشبة . وغذاء الروح يشمل أيضاً المشاعر الروحية ، ومحبة الله التي تتغذي بها الروح وكل أخبار الأبدية …
والروح إذا تغذي ، تستطيع أن تحمل الجسد .
وهذا نراه واضحاً جداً في أسبوع الآلام ، إذ تكون درجة النسك فيه شديدة وفترة الإنقطاع طويلة . ولكن الجسد يحتمل دون تعب ، بسبب الغذاء التي تأخذه الروح خلال هذا الأسبوع من ذكريات آلام المسيح ، ومن القراءات والألحان والطقوس الخاصة بالبصخة ، وتركيز العقل في الرب وآلامه … وكثيراً ما يقرأ الإنسان ، ويشبع بالقراءة ولذتها ، ويحين موعد الطعام ، فلا يجد رغبة في أن يكمل القراءة . لأن الروح تغذت فحملت الجسد فلم يشعر بجوع … إذن اعط الروح غذاءها أثنا الصوم . وكن واتقاً إن غذاء الروح سيعطي الجسد قوة يحتمل بها الصوم . كما أن صوم الجسد يعطي عمل الروح قوة إذ يكون عملا روحياً بزهد الجسد وزهد الفكر . ولذلك نجد :
صلوات الصوم اعمق ، وقداسات الصوم أعمق .
هي صلوات خارجة من جسد صائم قد أسلم قيادته للروح . وهي صلوات خارجه من قلب صائم عن الماديات ، ومن روح صائمه عن كل شهوة عالمية . لذلك تكون صلاة قوية . كصلوات الليل ونصف الليل التي يصليها الإنسان بجسد خفيف بعيد عن الأكل . آباؤنا في أصوامهم كانوا يهتمون بعمل الروح . فماذا عن أكلهم ؟
كانوا أيضاً في تناول الطعام يهتمون بعمل الروح .
وذلك انهم كانوا يكلفون واحدا منهم يقرأ لهم شيئاً من سير القديسين وأقوال الآباء أثناء تناولهم للطعام ، حتي لا ينشغلون بالأكل المادي ولا يتفرغون له ، وحتي يكون لهم غذاؤهم الروحي أيضاً أثناء تناولهم غذاء الجسد . وهكذا تعودوا عدم التفرغ لعمل الجسد ، وتعودوا سيطرة الروح علي كل عمل من أعمال الجسد . هناك وصايا تامر بالصوم . ولكن آباءنا لم يصوموا بسبب المر .
لم يصوموا طاعة و للوصية ، إنما محبة للوصية .
الطاعة درجة المبتدئين . ولكن الحب هو درجة الناضجين و الكاملين . وآباؤنا لم يكن الصوم بالنسبة إليهم أمراً ولا فرضاً ولا طقساً ، إنما كان لذه روحية ، وجدوا فيها شبعاً ، ووجدوا فيها راحة نفوسهم وأجسادهم .
وفي الصوم لم يقف آباؤنا عند حدود طاعة الوصية ، وإنما دخلوا في روحانية الوصية …
وروحانية الوصية الخاصة بالصوم هو لخيرنا ، ولولا ذلك ما أمرنا الله بالصوم وبالأضافة إلي ما قلناه ، سنشرح هذا الأمر بالتفصيل بمشيئة الرب في الفصل المقبل الخاص ( بالفضائل المصاحبه للصوم ) . اما ألان فسنتحدث عن أقدس أصوام السنة وهو الصوم الكبير
الصوم الكبير عبارة عن ثلاثة أصوام :
الأربعين المقدسة في الوسط . يسبقها أسبوع إما أن نعتبره تمهيدياً للأربعين المقدسة ، أو تعويضياً عن أيام السبوت التي لا يجوز فيها الإنقطاع عن الطعام . يعقب ذلك أسبوع الآلام . وكان في بداية العصر الرسولي صوماً قائماً بذاته غير مرتبط بالصوم الكبير .
والصوم الكبير أقدس أصوام السنة .
وأيامه هي أقدس أيام السنة ، ويمكن أن نقول عنه إنه صوم سيدي ، لأن سيدنا يسوع المسيح قد صامه . وهو صوم من الدرجة الأولي ، إن قسمت أصوام الكنيسة إلي درجات .
هو فترة تخزين روحي للعام كله .
فالذي لا يستفيد روحياً من الصوم الكبير ، من الصعب أن يستفيد من ايام أخري أقل روحانية . والذي يقضي أيام الصوم الكبير باستهانة ، من الصعب عليه يدقق في باقي أيام السنة . حاول أن تستفيد من هذا الصوم في ألحانه وقراءاته وطقوسه وروحياته الخاصة وقداساته التي تقام بعد الظهر .
كان الآباء يتخذون الصوم الكبير مجالاً للوعظ .
لأن الناس يكونون خلاله في حالة روحية مستعده لقبول الكلمة . حقاً عن الوعظ مرتب في كل أيام السنة . ولكن عظا الصوم الكبير لها عمق أكثر . وهكذا فإن كثيراً من كتب القديس يوحنا ذهبي الفم ، كانت عظات له ألقاها في الصوم الكبير ، وكذلك كثير من كتب القديس أوغسطينوس . بل أن الكنيسة كانت تجعل أيام الصوم الكبير فترة لإعداد المقبلين للإيمان .
فتعدهم بالوعظ في الصوم الكبير ليتقبلوا نعمة المعمودية .
فكانت تقام فصول للموعوظين خلال هذا الصوم تلقي فيها عليهم عظات لتعليمهم قواعد الإيمان وتثبيتهم فيها . وهكذا ينالون العماد في يوم أحد التناصير ، لكي يعيدوا مع المؤمنين الأحد التالي أحد الشعانين ويشتركون معهم في صلوات البصخة وأفراح عيد القيامة . ومن أمثلة ذلك عظات القديس كيرلس الأورشليمي إعداد الموعظين للإيمان بشرحه لهم قانون الإيمان في أيام الصوم الكبير .
ولاهتمام الكنيسة بالصوم الكبير جعلت له طقساً خاصاً .
فله ألحان خاصة ، فترة إنقطاع أكبر . وله قراءات خاصة ، ومردات خاصة ، وطقس خاص في رفع بخور باكر ، ومطانات خاصة في القداس قبل تحليل الخدام نقول فيها ( اكلينومين تاغوناطا ). ولهذا يوجد للصوم الكبير قطمارس خاص . كما انه تقرأ فيه قراءات من العهد القديم . وهكذا يكون له جو روحي خاص .
وقد علت الكنيسة له أسبوعاً تمهيدياً يسبقة . حتي لا يدخل الناس إلي الربعين المقدسة مباشرة بدون استعداد . وإنما هذا الأسبوع السابق ، يمهد الناس للدخول في هذا الصوم المقدس ، وفي نفس الوقت يعوض عن إفطارنا في السبوت التي لا يجوز الانقطاع فيها .
بل الكنيسة مهدت له أيضا بصوم يونان .
فصوم يونان ، أو صوم نينوي يسبق الصوم الكبير بأسبوعين ، ويكون بنفس الطقس تقريباً وبنفس الألحان ، حتي يتنبه الناس لقدوم الصوم الكبير ويستعدون له بالتوبة التي هي جوهر صوم نينوي . وكما اهتمت الكنيسة بإعداد أولادها للصوم الكبير ، هكذا ينبغي علينا نحن أيضا أن نلاقيه بنفس الاهتمام .
وإن كان السيد المسيح قد صار هذا الصوم عنا ،
وهو في غير حاجة إلي الصوم ، فكم ينبغي أن نصوم نحن في مسيس الحاجة إلي الصوم لكي نكمل كل بر ، كما فعل المسيح . ومن اهتمام الكنيسة بهذا الصوم أنها اسمته الصوم الكبير
فهو الصوم الكبير في مدته ، والكبير في قدسيته .
إنه اكبر الأصوام في مدته التي هي خمسة وخمسون يوماً . وهو اكبرها في قدسيته ، لأنه صوم المسيح له المجد مع تذكاراً آلامه المقدسة . لذلك فالخطية في الصوم الكبير شاعة .
حقاً ان الخطية هي الخطية . ولكنها أكثر بشاعة في الصوم الكبير مما في باقي الأيام العادية . لأنن الذي يخطئ في الصوم عموماً ، وفي الصوم الكبير خصوصاً ، هو في الواقع يرتكب خطية مزدوجة : بشاعة الخطية ذاتها ، يضاف إليها الاستهانة بقدسية هذه الأيام . إذن هما خطيئتان وليس واحدة .
والاستهانة بقدسية الأيام ، دليل علي قساوة القلب .
فالقلب الذي لا يتأثر بروحانية هذه الأيام المقدسة ، لا شك أنه من الناحية الروحية قلب قاس يخطئ في الصوم ، ينطبق عليه قول السيد المسيح " إن كان النور الذي فيك ظلاماً ، فالظلام كم يكون " ( مت 6:23) . أي إن كانت هذه الأيام المقدسة المنيرة فترة للظلام ، فالأيام العادية كم تكون ؟!
وقد اهتم الآباء الرهبان القديسون بالصوم الكبير .
حياتهم كلها كانت صوماً . ولكن إيام الصوم الكبير كانت لها قدسية خاصة في الأجيال الأولي ، حيث كانوا يخرجون من الأديرة في الأربعين المقدسة ويتوحدون في الجبال . ولعلنا نجد مثالاً لهذا في قصة القديس ولقائه بالقديسة مريم القبطية التائبة . وهكذا كان أيضاً نفس الاهتمام في رهبنة القديس الأنبا شنودة رئيس المتوحدين ، وفي كثير أثيوبيا .
فلنهتم نحن أيضاً بهذه الأيام المقدسة .
أن كنا لا نستطيع أن نطوي الأيام كما كان يفعل السيد المسيح له المجد فعلي الأقل فلنسلك بالزهد الممكن ، وبالنسك الذي نستطيع أن نحتمله . وأن كنا لا نستطيع أن ننتهر الشيطان ونهزمة بقوة كما فعل الرب ، فعلي الأقل فلنستعد لمقاومته . ولنذكر ما قاله القديس بولس الرسول في رسالته إلي العبرانيين معاتباً " لم تقاوموا بعد حتي الدم مجاهدين ضد الخطية "( عب 12: 4) . مفروض إذن أن يجاهد الإنسان حتي الدم في مقاومة الخطية . إن كانت ثلاثة أيام صامتها استير وشعبها ، وكان لها مفعولها القوي ن فكم بالأولي خمسة وخمسون
هنا واقول لنفسنا في عتاب :
كم صوم الكبير مر علينا في حياتنا ، بكل ما في الصوم الكبير من روحيات ؟ لو كنا نجني فائدة روحية في كل صوم ، فما حصاد هذه السنين كلها في أصوامها الكبيرة التي صمنها ، وباقي الأصوام الأخري أيضاً ؟ إن المسأله تحتاج إلي جدية في الصوم ، وإلي روحانية في الصوم ، ولا نأخذ الأمر في روتينية أو بلا مبالاة .
إن الذين يصمون ولا يستفيدون من صومهم ، لابد أنهم صاموا بطريقة خاطئة ، فالعيب لم يكن في الصوم ، وإنما كان في الطريقة . وهؤلاء إما انهم صاموا بطريقة جسدانيه ، ولم يهتموا بالفضائل المصاحبة للصوم أو أنهم إتخذوا الصوم غاية في ذاتها ، بينما هو مجرد وسيلة توصل إلي غاية . والغاية هي إعطاء الفرصة للروح .
إن الصوم هو فترة روحيات مركزة
فترة حب لله ، وإلتصاق به . وبسبب هذا الحب ارتفع الصائم عن مستوي الجسد الجسدانيات
هو ارتفاع عن الأرضيات ليتذوق الإنسان السمائيات . إنه فتره مشاعر مقدسة نحو الله . علي الأقل فيها الشعور بالوجود مع الله والدالة بالوجود مع الله والداله معه . وهو فترة جهاد روحي : جهاد مع النفس ، ومع الله ، وجهاد ضد الشيطان .
أيان الصوم هي أيام للطاقة الروحية وفترة تخزين . فمهن عمق الروحيات التي يحصل عليها في الصوم ، يأخذ الصائم طاقة روحية تسنده في أيام الإفطار . فالذي يكون أميناً لروحياته في الصوم الكبير مثلاً ، يحصل علي خزين روحي يقويه أيام الخمسين حيث لا صوم ولا مطانيات … ولكي يكون صوم الإنسان روحياً ، عليه بالملاحظات الآتية :
1- يكون الصوم روحانياً في هدفة ودوافعه :
لا يكون اضطراراً ، أو لكسب المديح ، أو بسبب عادة . إنما يصوم لأجل محبة الله ، إرتفاعاً عن الماديات والجسدانيات لتأخذ الروح فرصتها .
2- يكون الصوم فترة للتوبة ونقاوة القلب :
يحرص فيه الصائم علي حياة مقدسة مقبولة أمام الله . فيها الاعتراف وتبكيت النفس ، وفيها التناول من الأسرار المقدسة …
3- يكون الصوم فترة غذاء روحي ببرنامج روحي قوي :
ويهتم فيه بكل الوسائط الروحية . ولا يركز حول أمور الجسد في الصوم ، أنما علي أمور الروح . وأضعاً أمامه باستمرار ليس مجرد نوعية الطعام الصيامي ، وإنما علي أمور الروح . واضعاً أمامه باستمرار ليس مجرد نوعية الصيامي ، وأنما قدسية أيام الصوم وما يليق بها ، لكي تقوي روحه فيها … الصوم يوصل إلي قوة الروح . وقوة الروح تساعد علي الصوم .
وفي الصوم فضائل يرتبط بعضها بالبعض الآخر .
الصوم يساعد علي السهر لخفة الجسد . والسهر يساعد علي القراءة والصلاة . والقراءة الروحية أيضاً تساعد علي الصلاة . والعمل الروحي في مجموعة يحفظ الإنسان الروحي ساهراً . القراءة مصدر للتأمل ، والتأمل يقوي الصلاة . والصلاة أيضاً مصدر للتأمل …
والصوم يرتبط بالمطانيات . والمطانيات تساعد علي التواضع وانسحاق علي الواضع وأنسحاق القلب كما ان انسحاق الجسد بالصوم يوصل إلي إنسحاق الروح .
كما يرتبط الصوم بفضائل تتعلق بغرض الصوم .
فهناك صوم غرضه الاستعداد للخدمة ، كصوم الرسل . وصوم غرضه التوبة كصوم نينوي . وصوم غرضه إنقاذ الشعب ، كصوم استير … وهناك من يصوم لأجل غيره ، وفي ذلك حب وبذل ومشاركة . وكلها أصوام ممزوجة بفضائل خاصة . ليتنا نتذكر في صومنا أن السيد المسيح صام وهو ممتلئ بالروح . أما نحن فعلي الأقل فلنصم لكي نمتلئ بالروح .
الصوم أيام مقدسة ، يحياها الإنسان في قداسة.
لابد أن يكون فيها الفكر مقدساً . والقلب مقدساً ، والجسد أيضاً مقدساً .الصوم فترة تريد فيها ان تقترب إلي الله ، بينما الخطية تبعدك عنه . لذلك يجب أن تبتعد عن الخطية بالتوبة ، لتستطيع الالتصاق بالله . في الصوم ، يصوم الجسد عن الطعام ، وتصوم الروح عن كل شهوة ارضية ، وكل رغبة عالمية ، وتصوم عن الملاذ الخاصة بالجسد . وهكذا تقترب إلي الله بالتوبة . فاسأل نفسك : هل أنت كذلك ؟
بدون التوبة يرفض الله صومك ولا يقبله . وبهذا تكون لا ربحت سماءاً ولا أرضاً . وتكون قد عذبت نفسك بلا فائدة … فإن أردت ان يقبل الله صومك ، راجع نفسك في كل خطاياك ، وأرجع عنها … لقد أعطانا الله درساً، حينما تقدم التوبة قبل صومه . وكان ذلك رمزاً .
خذ مثالاً واضحاً من صوم نينوي .
قال عنها الكتاب في صومهم إنهم رجعوا كل واحد عن طريقه الرديئة وعن الظلم الذي في أيديهم ( يون3:
: . ولهذا السبب لم يشأ الرب أن يهلكهم " لما رأي أعمالهم أنهم رجعوا عن طريقهم الرديئة " ( يون 3:10) . ولم يقل لما رأي مسوحهم وصومهم ، بل رأي توبتهم هذه التي كانت هي العنصر الأساسي في صومهم .
وفي سفر يوئيل نري مثالاً للتوبة المصاحبة للصوم .
حيث قال الرب للشعب علي لسان نبية " أرجعوا إلي بكل قلوبكم وبالصوم والبكاء والنوح … مزقوا قلوبكم لا ثيابكم ، وأرجعوا إلي الرب إلهكم لأنه رؤوف .." ( يوئيل 2: 12، 13) . واضح هنا أن الصوم مصحوب بالتوبة و البكاء . إذن ليس هو مجرد امتناع عن العام … إنه مشاعر قلب من الداخل نحو الله .
وفي صوم دانيال النبي ، قدم توبة الشعب كله .
لقد صام ، واعترف للرب قائلاً " أخطأنا وأثمنا ، وعلمنا الشر وحدنا عن وصاياك … لك يا سيد البر ، أما لنا فخزي الوجوه … يا سيد لنا خزي الوجوه ، لملوكنا ولرؤسنا ولآبائنا أخطأنا إليك "( دا 9: 5- .
إذن اصطلح مع الله في صومك …
لا تقل " إلي متي يارب تنساني ؟ إلي الانقضاء ؟ حتي متي أحجب وجهي عنك " طهروا إذن نفوسكم وقدسوها ، واستعدوا للقاء هذه الأيام ، استعدوا بإسكان الله في قلوبكم ، وليس بمجرد الامتناع عن الطعام .
إن كنت في خطية ، إصطلح مع الله . وان كنت مصطلحا معه ، عمق محبتك له
وأن أبطلت الخطية في الصوم ، إستمر في أبطالها بعده
فليست التوبة قاصرة علي الصوم فقط ، وإنما هي تليق بالصوم ويتدرب الإنسان عليها ، فيتنقي قلبه ، يحفظ بهذا النقاء كمنهج حياة .
وفي ذلك كله ، أعدد نفسك للجهاد ضد الشيطان .
قال يشوع بن سيراخ " يا أبني إن تقدمت لخدمة ربك ، هيئ نفسك لجميع التجارب "… إن الشيطان إذ يري صومك وتوبتك ، يحسد عملك الروحي ، فيحاربك ليفقدك ثمرة عملك ، ويلتمس الحيل إسقاطك لك " لن أتركك حتى تكمل كل بر " … تذكر إذن قول القديس بطرس الرسول " قاوموه راسخين في الإيمان " ( 52بط 5: 9) . الصوم إذن فترة حروب روحية كما حدث للسيد له المجد ( مت 4) . وهي أيضاً فترة إنتصار لمن يشترك مع المسيح في صومه .
الصوم بدون صلاة يكون مجرد عمل جسداني .
وهكذا يفقد طابعة الروحي ويفقد فائدته الروحية … وليس الصوم هو الاكتفاء بمنع الجسد عن الطعام ، فهذه ناحية سلبيه . أما الناحية الإيجابية فتظهر في إعطاء الروح غذاءها . الذين يصمون ، وليس في أصوامهم أي عمل روحي ، لا صلاة ، ولا تأمل ، ولا قراءات روحية ، ولا ألحان ولا تراتيل ، ولا مطانيات ، هؤلاء تكون أصوامهم ثقلاً عليهم ، وبلا فائدة . ما الفرق بين هؤلاء وأصوام البوذيين و الهندوس . وأين شركة الروح القدس في الصوم ؟! الصوم فرصة للصلاة ، لأن صلاة واحدة تصليها في صومك ، هي أعمق من مائة صلاة وانت ممتلئ بالطعام وصوتك يهز الجبل !
الكنيسة تعلمنا باستمرار ارتباط الصلاة بالصوم .
وفي قسمة الصوم الكبير في القداس الإلهي تتكرر عبارة " بالصلاة و الصوم ". والسيد المسيح لما تكلم عن إخراج الشياطين ، قال " هذا الجنس لا يخرج إلا بالصلاة و الصوم " وهكذا قرن الصوم بالصلاة .
والأصوام المشهورة في الكتاب ، مرتبطة أيضاً بالصلاة .
ففي صوم نحميا يقول " فلما سمعت هذا الكلام ، جلست وبكيت ، ونحت أياماً ، وصمت وصليت … وقل " أيها الرب إله السماء … لتكن أذنك مصغية وعيناك مفتوحتين ، لتسمع صلاة عبدك الذي يصلي إليك الآن نهارا وليلاً …" ( نح 1: 4-6)وبدأ يعترف بخطايا الشعب ، طابلاً الرحمة وتدخل الرب … وصوم عزار أيضاً كان مصحوباً بالصلاة والصراع مع الله ، بقوله : "أمل أذنك يا إلهي واسمع . أفتح عينيك وانظر خرابنا و المدينة التي دعي أسمك عليها لأنه ليس لأجل برنا نطرح تضرعاتنا أمام وجهك ، بل لأجل نفسك يا إلهي ، لأن أسمك دعي علي مدينتك وعلي شعبك "( دا 9: 18،19) . وصوم نينوي كانوا فيه " يصرخون إلي الله بشدة "( يون 3:.
فاصرخوا إلي الرب خلال صومكن ، وارفعوا إليه قلوباً منسحقة .
وثقوا ان الله يستجيب لصومك وصراخكم ، وينتهر الرياح والأمواج ، فيهدأ البحر . حقاً ما اعمق الصلوات ، إن كانت في أيام مقدسة ، ومن قلوب متذللة أمام الله بالصوم ، ومتنقية بالتوبة ، وكم يكون عمقها إن كانت مصحوبة أيضاً بقداسات وتناول … درب نفسك في الصوم علي محبة الصلاة والصراع مع الله . وقد كتبنا لك في الفصل الخامس مجموعة تدريبات عن الصلاة .
والمهم في صلاتك أن تعطي الله قلبك وفكرك .
ولا تحاول أن تريح ضميرك بشكليات ، بمجموعة من التلاوات لا عمق فيها وليست حاجة من القلب ، ثم تقول " أنا صمت وصليت " ! فالرب يعاتب قائلاً " هذا الشعب يكرمني بشفتيه ، اما قلبه فمبتعد عني بعيداً "( مر 7: 6) . إن الصلاة صلة ، فاشعر أثناء صلاتك وصومك ، أنك في صله مع الله . وغن كان تقديس الصوم معناه تخصيصه للرب :
فهل فترة صومك خصصتها للصلاة وللعمل الروحي ؟
هل هي فترة صلاة وتأملات وقراءات روحية ، وتخزين روحي ، وتفرغ لله وعشرته ؟ وهل صلواتك فيها أضعاف صلواتك في الأيام العادية . وأن لم تخصص فيها أكبر وقت لله ، فهل خصصت له مشاعرك وعواطفك ؟
إن الصوم المصحوب بعشرة الله ، يتحول إلي متعة روحية
وفي هذه المتعة ، يحاول الصائم ان يكثر من صومه ، ويصبح الطعام ثقلاً عليه ، لأنه يرجعه إلي استعمال الجسد الذي استراح منه إلي حين طوال ساعات انقطاعه .
الصوم فترة تنسحق فيها الروح أمام الله ، بالتوبة والدموع وانكسار القلب واتضاعه ، فتعرف الذات ضعفها ، أنها تراب ورماد ، وتلجأ إلي القوة العليا .
حينما ينسحق الجسد بالجوع ، تنسحق الروح أيضاً
وفي انسحاقها ، وتنحني النفس أمام الله خاشعة ذليلة معترفة بخطاياها وتذلل النفس يحنن قلب الله وقلوب السمائيين جميعاً . والإنسان في اتضاعه وشعوره بضعفه ، يشعر أيضاً بزهد فغي كل شئ ، ولا يتعلق قلبه بآيه شهوة فيكلم الله بعمق .
والكتاب المقدس يقدم أمثلة عديدة عن التذلل في الصوم :
لأن الله لا يحتمل أن يري مذله أبنائه أمامه . واكثر الأمثلة في سفر القضاة التي رأي فيها الله مذله شعبة فنزل وخلصهم ( قض 2) ، " في كل ضيقهم تضايق ، وملاك حضرته خلصهم " ( أش 63:9) . بتذللهم وانسحاقهم يتضرعون . وقريب هو الرب من المتضعين ، ومنسحقو القلوب هو يخلصهم …
الصوم الذي آمر به يوئيل النبي ، مثال واضح .
قال : " تنطقوا ونوحوا أيها الكهنة … أدخلوا ، بيتوا بالمسوح يا خدام إلهي …. قدسوا صوما ، نادوا باعتكاف "( يوئيل 1: 13، 14) . " الآن - يقول الرب - أرجعوا إلي الرب إلهكم … قدسوا صوماً نادوا باعتكاف … ليخرج العريس من مخدعه و العروس من حجلتها . ليبك الكهنة خدام الرب بين الرواق و المذبح ويقولوا : أشفق يارب علي شعبك ، ولا تسلم ميراثك للعار ، حتى تجعلهم الأمم مثلاً . لماذا يقولون بين الشعوب : أين إلههم ؟" ( يوئيل 2: 12-17) .
إننا نري هنا صورة تفصيلية للصوم المتكامل .
الصوم ، ومعه التوبة ( الرجوع إلي الله ) ، ومعه الصلاة ، والتذلل والبكاء و النوح والبعد عن الجسدانيات ، ومعه أيضا الاعتكاف والمسوح …. هذا هو الصوم في كل عناصره ، وليس مجرد الامتناع عن الطعام .
مثال آخر ، هو صوم أهل نينوي .
صاموا ، حتى الأطفال و الرضع ، لم يذوقوا ولم يأكلوا شيئاً . ولكنهم لم يكتفوا بهذا ، بل تذللوا أمام الله في المسوح والرماد . حتى الملك نفسه ، خلع تاجه وملابسه
الملكية . ولم يجلس علي عرشه ، بل جلس معهم علي المسوح والرماد … وصرخ الكل إلي الله بشدة ( يون 3) .
كذلك أيضاً صوم نحميا ، وصوم عزار
قال عزار الكاتب والكاهن " ناديت هناك بصوم علي نهر أهوا ، لكي نتذلل أمام إلهنا ، لنطلب منه طريقاً مستقيمة لنا ولأطفالنا … فصمنا وطلبنا ذلك من الله فاستجاب ( عز 8: 21،23) . وكذلك نحميا أيضاً يقول :" بكيت ونحت أياماً ، وصمت وصليت "( نح 1:4) . هذا عن نفسه ، أما عن الشعب ، فيقول إنهم : إجتمعوا بالصوم ، وعليهم مسوح وتراب ، وانفصلوا عن الزيجات الخاطئة ، ووقفوا واعترافوا بخطاياهم وذنوب آبائهم . وأقاموا في مكانهم ، وقرأوا في شريعة الرب إلههم ( نح 9:1-3) . أليس هذا أيضاً صوماً متكاملاً : بالصلاة ، والبكاء والنوح ، وقراءة الكتاب ، والتوبة والاعتراف في المسوح و التراب … إذن ليس هو مجرد امتناع عن الطعام ..
وبنفس الوضع كان أيضاً صوم دانيال النبي .
يقول " فوجهت وجهي إلي الله السيد ، طالباً بالصلاة و التضرعات ، بالصوم و المسح والرماد . وصليت إلي الرب إلهي واعترفت … أخطأنا وأثمنا وعلمنا ¸الشر وتمردنا وحدنا عن وصاياك .." ( دا9:3-5) . وفي صوم آخر يقول " أنا دانيال . كنت نائحاً ثلاثة أسابيع أيام . لم آكل طعاماً شهياً ، ولم يدخل في فمي لحم ولا خمر ، ولم أدهن …"( دا 10: 2، 3) . إنها نفس عناصر الصوم التي وردت في الأصوام السابقة … حقاً ، هذا هو الصوم الذي قال عنه داود النبي :
" كان لباسي مسحاً . أذللت بالصوم نفسي "( مز 35:17) .
ولا شك أن النوح يوقف كل شهوة للجسد ، ويبعد كل رغبة في الطعام . كما أنه بالإتضاع تفتح أبواب السماء .
لقد تكررت هذه العبارة مرتيين في سفر يوئيل النبي " قدسوا صوماً ، نادوا باعتكاف "( يوئيل 1: 14 ،2:15)
نادوا باعتكاف ، لكي تجدوا وقتاً للعمل الروحي .
في الاعتكاف تصمت ، ولا تجد من تكلمه ، فتكلم الله . ولكن لا تعتكف مع الخطية ، أو مع طياشة الأفكار … وتعتكف أيضاً حتى لا يظهر صومك للناس بل لأبيك الذي يري في الخفاء . والمعروف ان الصائم في نسكه وجوعه ، قد يكون في حالة من الضعيف ، لا تساعده علي بذل مجهود ، فالاعتكاف بالنسبة إليه أليق . في صومه ، روحه مشغوله بالعمل الجواني مع الله ، لذلك فالكلام يعطله عن الصلاة والهذيذ والتأمل ، والمقابلات والزيارات تمنع تفرغه لله ، وربما توقعه في أخطاء .
السيد المسيح في صومه ، كان معتكفاً علي الجبل .
في خلوة مع الله الآب ، وتفرغ للتأمل … وهكذا أيضاً كانت أصوام آبائنا في البرية …أما أنت ، فعلي قدر إمكانياتك أعتكف … وإذا اضطررت لخلطة ، ليكن ذلك في حدود الضرورة ، وتخلص من الوقت الضائع ، ومن كل كلمة زائدة . وهذا يذكرنا بصوم آخر هو :
قال مار اسحق :" صوم اللسان خير من صوم الفم . وصوم القلب عن الشهوات خير من صوم الاثنين " أي خير من صوم اللسان ومن صوم الفم كليهما . كثيرون يهتمون فقط بصوم الفم عن الطعام . وهؤلاء وبخهم الرب بقوله " ليس ما يدخل الفم ينجس الإنسان ، بل ما يخرج من الفم هذا ينجس الإنسان " ( مت 15: 11) . وهكذا أرانا أن الكلام الخاطئ نجاسة . وايضاً قال معلمنا يعقوب الرسول عن اللسان إنه " يدنس الجسد كله "( يع3:6) . فهل لسانك صائم مع صوم جسدك ؟ وهل قلبك صائم عن الشهوات .
إن القلب الصائم يستطيع ان يصوم اللسان معه .
لأنه " من فيض القلب يتكلم الفم "( مت 12: 34) . وكما قال الرب أيضاً " وأما ما يخرج من الفم ، فمن القلب يصدر "( مت 15: 18) . وكذلك لأن " الرجل الصالح من كنز قلبه الصالح يخرج الصلاح . والرجل الشرير من كنز قلبه الشرير تخرج الشرور "( مت 12: 35) . لذلك إن كان قلبك صائماً عن الخطية ، فسيكون لسانك صائماً عن كل كلمة بطالة .
والذي يصوم قلبه ، يمكنه أن جسده أيضا .
أذن المهم هو صوم القلب و الفكر عن كل رغبة خاطئة . أما صوم الجسد فهو أقل شئ . وأحرص إذن في صومك أن تضبط لسانك ، وكما تمنع فمك عن الطعام ، إمنعه عن الكلام الردئ . وسيطر علي أفكارك ، واضبط نفسك .
جميل ان تجميل أن تضبط نفسك ضد كل رغبة خاطئة ، سواء أتتك من داخلك أو من حروب الشياطين . فالذي يملك روحه خير ممن يملك مدينة )( ام 16: 32) .
أمسك إذن زمام إرادتك في يدك .
في صوم الجسد تشمل كل فكر ، وكل رغبة بطالة ، وكل تصرف خاطئ ، وكل شهوة للجسد . اما الذي يملك إرادتك في الطعام فقط ، وينغلب من باقي شهواته ، فصومه جسداني . والذي لا يستطيع أن يضبط نفسه في صوم الجسد ، فبالتالي سوف لا يستطيع ان يضبط نفسه في الأفكار و الشهوات والتصرفات
أما ضبطك لشهواتك فدليل علي الزهد ومحبة الله .
تقول للجسد في الصوم : أرفع يدك عن الروح ، واطلقها من روابطك ، لتتمتع بالله . وأنت تصوم لكي تنفك من رباطات الجسد . وشهوة الأكل هي إحدى هذه الرباطات . وهناك رباطات أخري كالشهوات الجسدية . وهكذا في الصوم ، يكون قهر الجسد أيضا بالبعد عن العلاقات الزوجية ، ولكن يكون ذلك باتفاق ( 1كو 7:5) . وكما يقول يوئيل النبي في الصوم " ليخرج العريس من خدره ، والعرس من حجلتها " ( يؤئيل 2: 16) . وكما قيل عن داريوس الملك ، لما ألقي دانيال في الجب إنه " بات صائماً ، ولم يؤت قدامه بسراريه "( دا 6: 18) . حتى مجرد زينة الجسد … قال دانيال النبي في صومه " ولم أدهن "( دا 10 : 3) . وقال عن شهوة الطعام " ولم آكل طعاماً شهياً ".
قهر الجسد ليس هدفاً في ذاته ، بل وسيلة للروح .
إن ضبط الجسد لازم حتى لا ينحرف فيهلك الروح معه . وفي ذلك ما أخطر قول الرسول " أقمع جسدي وأستعبده . حتى بعد ما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضاً "( 1كو 9:27) . فحينما يكون الجسد مقهوراً ، تمسك الروح بدفة الموقف وتدبير العمل . والجسد حينئذ لا يقاومها ، بل يشترك معها ويخضع لقيادتها . أضبط إذن جسدك ، وأبعده عن كل المتع والترفيهات و الشهوات ، بحكمة
ولا يكفي فقط أن تصوم ، بل تنتصر علي شهوة الأكل .
وهذا يقودنا في الصوم إلي فضيلة أخري هي الزهد .
قد يمتنع الإنسان عن الطعام ، ولكنه يشتهيه . لذلك فليس السمو في الأمتناع عن الطعام ، إنما في الزهد فيه . الارتفاع عن مستوي الأكل ، يوصل إلي الزهد فيه ، وإلي النسك فيه ، وبالتالي إلي فضيلة التجرد . ولكن ماذا إن لم يستطع أن يصل إلي الزهد و التجرد ؟
إن لم يمكنك التجرد و الزهد ، فعلي الأقل أترك من أجل الله شيئاً .
كان المطلوب من آدم وحواء ، أن يتركا من أجل الله ثمرة واحدة من الثمار . والمعروف أن ترك الطعام أو نوع منه ، ليس إلا تدريباً لترك كل شئ لأجل الله … وأنت ماذا تريد في الصوم أن تترك لجل الله ، لأجل محبته وحفظ وصاياه ؟ ان الله ليس محتاجاً إلي تركك شيئاً . ولكنك بهذا تدل علي ان محبتك لله قد صارت اعمق ، وقد عملية . ومن أجل محبته أصبحت تضحي برغباتك .
فالذي يشعر في الصوم بالجوع ، يشفق علي الجوعانين . وبهذه الرحمة يقبل الله صومه ، وكما قال " طوبي للرحماء فإنهم يرحمون "( مت 5: 7) . والكنيسة من اهتمامها بالصدقة ، ترتل في الصوم الكبير ترنيمة " طوبي للرحماء علي المساكين ".
ومن اهتمام الرب بالصدقة ، قال في نبوة اشعياء .
" أليس هذا صوماً أختاره : حل قيود الشر … إطلاق المسحوقين أحراراً … أليس أن تكسر للجائع خبزك ، وأن تدخل المساكين التائهين إلي بيتك . إذا رأيت عرياناً أن تكسوه ، وأن لا تتغاضي عن لحمك "( أش 58: 7) . وفي عصر الشهداء و المعترفين ، كانت الكنيسة تقول هذا التعليم
أن لم تجد ما تعطية لهؤلاء ، فصم وقدم لهم طعامك .
أي أنك لا تصوم ، وتوفر الطعام لك . وإنما تصوم وتقدم للمساكين الطعام الذي وفرته . ولهذا اعتادت كثير من الكنائس في أيام الصوم ، أن تقيم موائد للفقراء تسميها أغابي . ولكي لا يحرج الفقراء إن أكلوا وحدهم ، يأكل الشعب كله معاً .
المطانيات هي السجود المتوالي ، مصحوباً بصلوات قصيرة .
والكنيسة تربط المطانيات بالصوم الإقطاعي . فالأيام التي لا يجوز فيها الصوم الانقطاع . مثل الأعياد والسبوت والآحاد والخماسين - لا تجوز فيها أيضاً المطانيات ، سواء من الناحية الروحية أو الجسدية . لذلك يحسن أن تكون المطانيات في الصباح المبكر ، أو في أي موعد أثناء الانقطاع قبل تناول الطعام .
يمكن أن تكون المطانيات تذللاً أمام الله .
أي أنه مع كل مطانية ، يبكت الإنسان نفسه أمام الله علي خطية ما ، ويطلب مغفرتها : أنا يارب أخطأت في كذا ، فاغفر لي . أنال نجست هيكلك فاغفر لي . أغفر لي أنا الكسلان ، أنا المتهاون ، أنا الذي … ويمكن ان تكون المطانيات مصحوبة بصلوات شكر أو تسبيح .
ويمكن القيام بتمهيد روحي قبل المطانيات .
كمحاسبة للنفس ، أو أية قراءة روحية تشعل الحرارة في القلب .
مادام الصوم فترة روحية مقدسة ، يهدف فيه الصائم إلي نموه لالروحي ، أذن يليق أن يضع أمامه بعض التداريب روحية ، لكي يحول بها هذه الرغبات الروحية إلي حياة عملية . فما هي هذه التداريب ؟
تختلف التداريب الروحية من شخص إلي أخر .
وذلك بحسب احتياج كل إنسان . سواء كانت هذه التداريب تشمل مقاومة نقط ضعف معينه في حياة الصائم ، أو تشمل فضائل معينة تنقصه ، أو اشتياقات روحية تجول في قلبه .
وهكذا تختلف في الشخص الواحد حسب احتياجه .
فما يحتاج إليه إنسان في وقت ، غير ما يحتاجه في وقت آخر . وذلك حسب حروبه من جهة ، وحسب درجة نموه من جهة أخري . المهم أن توجد التداريب ، حتى يشعر الصائم أنه يضع هدفا خاصاً أمامه أثناء الصوم يحاسب نفسه عليه ، ويتابع تنفيذه ، وحتي بنتيجة واضحة من صومه بالإضافة إلي الفضائل العامة للصوم .
وما سنتحدث عنه الآن ، هو مجرد أمثلة .
وليضع كل إنسان ما يناسبه من تداريب أثناء صومه . وليكن ذلك تحت إشراف أب اعترافه بقدر الإمكان .
والغرض منها ان يكون الصوم سليماً ، نامياً في نوعيته .
ومنها تداريب خاصة بضبط النفس :
وقد تشمل منع الصائم لنفسه من أكل أصناف معينة يشتهيها . سواء كلن ذلك منعاً كلياً طوال فترة الصوم ، أو منعاً جزئياً خلال فترة محددة أو يوم معين . أو كان ذلك المنع عن طريق الإقلاقل من الكمية ، أو عدم طلب صنف معين بالذات . وقد تشمل تداريب ضبط النفس : فترة الإنقطاع وتحديدها و النمو فيها . والبعض يلجأ إلي نظام التدريج حتى خلال الصوم الواحد . فالصوم الكبير يشمل ثمانية أسابيع ، قد يتدرج الصائم أثناءها في درجة نسكه وانقطاعه عن الطعام . ويشمل ضبط النفس يوم الرفاع ، يوم العيد أيضاً ، فلا يكون الأكل فيهما علي مستوي التسيب بلا ضابط . كذلك ضبط النفس يشمل أيضاً عنصر الجوع .
وقد يكون التداريب خاصة بالفضائل المصاحبة للصوم .
وبهذا تشمل النواحي الروحية في الصوم كضبط النفس عموماً خارج نطاق الأكل ، والسيطرة علي الجسد عموماً ، والامتناع عن كل شهواته الجسدية ، وكل الترفيهات الخاصة بالحواس . وتداريب السهر ، وتدريب البعد عن الكماليات . وكذلك التداريب الخاصة بما في الصوم تذلل وانسحاق أمام الله ، وما فيه أيضاً من زهد ، يتسع نطاقه بالتدريج .
لأن الصوم هو بلا شك فترة توبة . وتداريب التوبة كثيرة نذكر منها :
التركيز علي نقطة الضعيف أو الخطية المحبوبة .
وكل إنسان يعرف تماماً ما هي الخطية التي يضعف أمامها ، ويتكرر سقوطه فيها ، وتتكرر في غالبية اعترافاته . فليتخذ هذه الخطايا مجالاً للتداريب علي تركها أثناء الصوم . وهكذا يكون صوماً مقدساً حقاً .
وقد يتدرب الصائم علي ترك عادة ما .
مثل مدمن التدخين الذي يتدرب في الصوم علي ترك التدخين . أو المدمن مشروباً معيناً ، أصبح عادة مسيطرة لا يستطيع تركها ، كمن يدمن شرب الشاي و القهوة مثلاً . أو الذي يصبح التفرج علي التلفزيون عادة عنده تضيع وقته وتؤثر علي قيامه بمسؤلياته . كل ذلك وأمثاله تكون فترة الصوم تدريباً علي تركه .
وقد يتدرب علي تركه خطية كالغضب أو الإدانة .
وهي من الخطايا المشهورة التي يقع فيها كثيرون . وربما تشمل التداريب مجموعة من خطايا اللسان تعود الإنسان السقوط فيها ، فيدرب نفسه في الصوم علي التخلص منها واحدة فواحدة .
وما أسهل أن يضع أمامه آيات خاصة بالخطية .
فمثلاً يذكر نفسه كلما وقع في خطية النرفزة يقول الكتاب " لأن غضب الإنسان لا يصنع بر الله "( يع 1:2) . ويكرر هذه الآية بكثرة كل يوم ، وبخاصة في المواقف التي يحاربه الغضب فيها . ويبكت نفسه قائلاً ماذا أستفيد من صومي ، إن أن كنت فيه أغضب ولا أصنع بر الله ؟! أو أن كان واقعاً في أية خطية من خطايا اللسان ، يضع أمامه قول الكتاب " كل كلمة بطالة يتكلم بها الناس ، سوف يعطون عنها حساباً يوم الدين " ( مت 12: 36) . ويقول لنفسه في عتاب : ماذا أستفيد إن صمت صوماً فيه كل ضبط النفس ، ثم لم أضبط لساني وقلت لأخي يا أحمق ، وأصبحت بذلك مستحقاً لنار جهنم ( مت 5: 22) .
وكلما تجوع وتشتهي الأكل ، بكت نفسك .
وقل لها : حينما تتركن هذه الخطية ، سوف أسمح لك بالأكل . هوذا الكتاب يقول " إن الذي لا يعمل لا يأكل " ( 2تس 3:10) . وأنت لم تعملي عمل التوبة اللائق بالصوم ، أو اللائق بقلب هو مسكن الله . وبخ نفسك وقل لها : ما فائدة امتناعي عن الأكل ، أن كنت لم أمتنع بعد عن هذه الخطية التي تفصلني عن الله ، ولا تنفعني صومي كله .
خذ نقطة الضعف التي فيك ، واجعلها موضوع صلواتك وجهادك خلال هذا الصوم .
ركز عليها التركيز كله ، من جهة الحرص و التدقيق ، ومن جهة مقاومة هذه الخطية . واسكب نفسك أمام الله ، وقل له : نجني يارب من هذه الخطية . أنا معترف بأنني ضعيف في هذه النقطة بالذات ، ولن أنتصر عليها بدون معونة منك أنت . إرحم يارب ضعفي وعجزي . لأ أريد أن أنتهي من هذا الصوم ، قبل أنت تنتهي هذه الخطية من حياتي . أجمع آيات الكتاب الخاصة وضعها أمامك ، لتتلوها باستمرار . لتكن فترة الصوم هذه هي فترة صراع لك مع الله ، لتنال منه قوة تنتصر بها علي خطاياك . درب نفسك خلال الصوم علي هذا الصراع . وقل : مادام الصوم يخرج الشياطين حسب قول الرب ، فليته يخرج مني خطاياي مادام هو مع الصلاة يخرج الشياطين .
يقول الكتاب " قدسوا صوماً ، نادوا باعتكاف "( يوئيل 1:14) . ضع هذه الآية أمامك ودرب نفسك علي الاعتكاف .
والمقصود بالاعتكاف ، أنه اعتكاف مع الله .
لأن هناك من يعتكفون في بيوتهم ، دون أي عمل روحي ، بل قد يعتكفون مع الراديو أو التلفزيون أو المجلات ، أو في أحاديث مع اهل البيت …! أو يعتكفون مع الأفكار الخاطئة ، ليس هذه هو الاعتكاف . إنما الاعتكاف يكون من أجل عمل روحي تعمله في مخدعك عليك مع الله . تعتكف مع الكتاب ، مع سير القديسين ، مع المطانيات ، مع الصلاة .
إن كان لك برنامج روحي ، ستحب الاعتكاف .
وإن استفدت فائدة روحية من اعتكافك ، ستستمر في هذا الاعتكاف ، وتشعر أنه بركة لك من الله . لذلك اجلس إلي نفسك . وضع هذا البرنامج ، واعتكف لأجل تنفيذه . وحاول أن تستغني عن صداقاتك وترفيهاتك خلال هذه الفترة ، التي سيكون فيها الله هو صديقك الحقيقي . درب نفسك أنك تستغني عن الحكايات و الدردشة والكلام الذي لا يفيد ، وحينئذ ستقدر أن تعتكف وتعمل مع الله . وإن لم تستطيع أن تعتكف طول الصوم ، فهناك حلول أسهل :
أستخدم تدريب " بعض الأيام المغلقة ".
أي حدد لنفسك أياما معينة لا تخرج فيها من بيتك ، وتكون قد نظمت مشغولياتك وزياراتك ، بحيث تعتكف في هذه الأيام المغلقة . ويمكن ان تبدأ بيوم واحد مغلق في الأسبوع ، ثم يومين ، ثم تنمو أكثر … ولكن ماذا تفعل إن لم تستطيع أن تغلق علي نفسك مع الله ؟
إن لم تستطيعوا أن تغلقوا أبوابكم خلال الصوم ، فعلي الأقل إغلقوا أفواهكم عن الكلام الباطل .
فحديثنا مع الناس ، ما أسهل ان يعطل حديثنا مع الله . وكما قال أحد الآباء " الإنسان الكثير الكلام ، إعلم أنه فارغ من الداخل "… أي فارغ من العمل الروحي داخل القلب ، فلا صلاة ولا تأمل ولا تلاوات روحية … إن تدريب الخلوة والإعتكاف ، سيساعدكم علي الصمت . والصمت سيخلصكم من أخطاء السان ، كما أنه يعطيكم فرصة للعمل الداخلي ، عمل الروح … ولكن ماذا إذن ، أن كان الصائم لا يستطيع الاعتكاف الكامل ، ولا الأيام المغلقة ، ماذا يفعل ؟ هناك تدريب آخر هو :
تدريب مقاومة الوقت الضائع :
هناك إنسان مشكلته الأولي ضياع وقته . وقته تافه في عينيه . يضيع أوقاته دون أن يستفيد . هذه هي خطيته الأولي . ونتيجة لإضاعة الوقت ، لا صلاة ، ولا قراءة ،ولا أي فكر روحي . ونتيجة لهذا أيضاً : الفتور ا
إبحث إذن أين تشرد إرادتك بعيدا عن الله .
وركز علي هذه النقطة بالذات لكي تنجح فيها ، وتقدم لله إرادة صالحة ترضيه وهذا التدريب الذي تسلك فيه أثناء الصم ، وف يصحبك بعده أيضاً . لأنه من غير المعقول أن تضبط نفسك في البعد عن خطايا معينه أثناء الصوم ، ثم تبيح هذا الأمر لنفسك عندما ينتهي الصوم ! وإلا فما الذي تكون قد استفدته من صومك ؟!
أحرص أن يكون الصوم قد غير فيك شيئاً .
لا تأخذ من الصوم مجرد تغيير الطعام ، إنما تغيير الحياة إلي أفضل … تغيير النقائص التي فيك ، والضعفات التي تحسها في علاقتك مع الله و الناس . لأنه ماذا تستفيد أن قهرت نفسك خلال خمسة وخمسين يوماً في الصوم الكبير ، وخرجت من الصوم كما كنت تماماً قبله ، دون أن تكون علاقة حب مع الله ، وعلاقة حب مع الله ، وعلاقة ثابت فيه ؟!
تأمل كم صوماً مر عليك ، وأنت كما !
كم هي الأصوام ، التي صمتها ، منذ أن عرفت الله حتي الآن ؟ كم سنة مرت عليك ، وفي كل سنة عدد من الصوام ، مع أربعاء وجمعة في كل أسبوع . تأمل لو كنت في كل صوم منها تنجح إرادتك ، ولو في الانتصار علي نقطة ضعف معينه حتي تصطلح مع الله فيها وتذوق حلاوه مشيئته … تري لو سلكت هكذا ، كم كنت تري حصاد حياتك وفيراً في الروحيات ، وكم كانت علاقتك بالله تزيد وتتعمق ….
لا تأخذ من الصوم شكلياته ، بل ادخل إلي العمق .
فليس الصوم مجرد شكليات ورسميات ، ولا هو مجرد فروض أو طقوس ، إنما هو نعمة أعطت لنا من الله ، ونظمتها الكنيسة لخيرنا الروحي . لأجل تنشيط أرواحنا ، وتذكيرنا بالمثالية التي ينبغي أن نسلك فيها ، وتدريبنا علي " القداسة التي بدونها لا يعاين أحد الرب "( عب 12: 14) .
الصوم إذن فترة مقدسة مثالية غير عادية .
يحتاج إلي تدبير روحي من نوع خاص يتفق مع قدسيتها . حالماً يبدأ الصوم نشعر أننا دخلنا في حياة لها سموها ، وفي أيام غير عادية نتدرب فيها علي حياة الكمال . ولذلك لا يجوز أن تمر علينا شأنها كباقي الأيام …. إنها صفحة جديدة في علاقتنا مع الله ، ندخلها بشعور جديد وبروح جديدة … حقاً إن كل أيام حياتنا ينبغي أن تكون مقدسة . ولكن فترة الصوم هي أيام مقدسة غير عادية . وإن سلكنا فيها حسناً ، سنصل غلي قدسية الحياة كلها … إنها فتره نتفرغ فيها لله علي قدر إمكاننا ، ونعمق علاقتنا به .
هل سمعتم عن الصوم الذي يخرج الشياطين ؟
وكيف قال الرب عن الشياطين " هذا الجنس لا يخرج إلا بالصلاة والصوم ( مت 17: 21) . فأي صوم هذا الذي لا تستطيع الشياطين أن تحتمله فتخرج ؟ أهو مجرد الامتناع عن الطعام ؟ كلا بلا شك . بل إنها العلاقة القوية التي تربط الصائم بالله ، هذه التي لا يحتملها الشيطان … الدالة التي بين الإنسان والله ، دالة الحب وصلة الروح التي حرم منها الشيطان ، ما ان يراها حتي يتعب ويذهب … القلب الملتصق بالله في الصوم ، هذا يراه الشيطان فيهرب .
فهل قلبك ملتصق بالله في الصوم ؟
هل تعطية قلبك كما تعطية إرادتك ؟ وهل تشعر بحبه أثناء الصوم ؟ هل هذا الحب طابع واضح في صلواتك وتاملاتك اثناء الصوم ؟ وهل من أجل محبته نسيت طعامك وشرابك ، ولم تعد تهتم بشيء من هذا ؟
وكأنك تقول لجسدك أثناء صومك :
أنا لست متفرغاً لك الآن . أكلت أو لم تأكل ، هذا موضوع لم يعد يشغلني أو يهمني …. " لكل شئ تحت السموات وقت " . وليس هذا هو وقتك … أنا الآن مشغول بعمل روحي مع الله . فتعال اشترك معنا ، أن أردت أن يكون لك كيان في هذا الصوم . أما الطعام فليس الان مجاله . طعامي الآن هو كل كلمة تخرج من فم الله . هذه هي مشاعر من يقول في صومه مع القديس يوحنا الرائي :
كنت في الروح في يوم الرب ( رؤ 1: 10) .
ولا شك أن يوم الصوم هو يوم للرب . فهل انت " في الروح " أثناء صومك ؟ هل نسيت جسدك تماماً بكل ماله من رغبات ومطالب واحتياجات ، وفضلت أن تحيا في الروح خلال فترة الصوم ؟ ليس للجسد عندك سوي الضروريات التي لا قيام له بدونها … وكأنك تقول مع بولس الرسول " في الجسد أم خارج الجسد ، ليست أعلم . الله يعلم "( 2كو 12: 3) .
هل يكون فكرك منشغلاً بالله في صومك ؟
في أثناء القداس الإلهي ينادي الأب الكاهن قائلاً " أين هي عقولكم "؟ ويجيب الشعب " هي عند الرب " . وانا اريد ان أسأل نفس السؤال أثناء الصوم " أين هي عقولكم " ؟ أتستطيع ان تجيب " هي عند الرب "؟ أليس الصوم فترة مقدسة لله ، مخصصة له ، يجب فيها ان ينشغل الفكر بالله وحده ؟ افحص يا أخي نفسك ، وأبحث عن أفكارك اين هي أثناء الصوم .
هل مشاغل الدنيا تملأ فكرك اثناء الصوم ؟
فأنت في دوامه العمل ، وفي دوامة الأخبار ، وفي دوامة الأحاديث مع الناس ، لا تجد وقتاً لله تعطيه فيه فكرك ! وربما تصوم حتى الغروب ، وفكرك ليس مع الله ، قد أرهقه الجولان في الأرض و التمشي فيها …! وربما تفكر في التافهات ، وتتكلم عن التافهات ، والله ليس علي فكرك ، ولا تذكره إلا حينما تجلس لتآكل ، فنصلي قبل الأكل ، وتذكر الله وتذكر انك كنت صائماً ! هل هذا صوم روحي يريح ضميرك ؟! ليتك إذن تذكر قول داود النبي :
جعلت الرب أمامي في كل حين .
هو امامي في كل عمل أعمله ، وفي كل كلمة أقولها .إنه شاهد علي كل شئ . وأيضاً جعلته أمامي لأنه هدفي الذي لا أريد أن اتحول عنه لحظه واحدة وهو امامي لأنني من أجله وحده أصوم لكي لا أنشغل عنه بل اجعله أمامي كل حين … أن كنت في الأيام العادية ، ينبغي أن تضع الله أمامك في كل حين ، فكم بالأكثر في فترات الصوم التي هي مخصصة لله ومقدسة له ؟
إن كان الله ليس علي فكرك ، فلست صائماً .
يوم الصوم الذي لاتفكر فيه في الله ، اشطبه من أيام صومك ، إنه لا يمكن أن يدخل تحت عنوان " قدسوا صوماً" … ولكن لعل البعض يسأل : كيف يمكنني تنفيذ هذا الأمر ، وأنا أعيش في العالم ، ولي مسئوليات كثيرة ينبغي أن أفكر فيها ؟
إذن إحفظ التوازن ، وأمامك ثلاث قواعد :
1- لا تجعل مسئولياتك تطغي ، بحيث تستقطب كل أفكارك ، ولا تبقي في ذهنك موضعاً لله .. أجعل لمسئولياتك حدوداً ، وأعط لربك مجالاً .
2- كل فكر لا يرضي الله إبعده عنك ، فهو لا يتفق مع المجال القدسي الذي تعيش فيه . وكما يقول القديس بولس الرسول " مستأسرين كل فكر لطاعة المسيح "( 2 كو 10: 5) . لذلك لا تنجس صومك بفكر خاطئ . فالفكر الذي يطيع المسيح استبقه معك ، والذي لا يطيع اطرده عنك .
3- إشرك الله معك في أفكارك ، وفي أهداف أفكارك . وقل :
أنا من أجل الله أفكر في هذا الموضوع .
أنت تفكر في مسئولياتك . حسناً تفعل . ولكن لا تجعلها منفصلة عن الله . الله هو الذي أعطاك هذه المسئوليات . وأنت من أجل تفكر فيها . ولا يكون فكرك فيها منفصلاً عن الله … من أجل الله تفكر في شئون عملك . ومن أجله تفكر في دروسك ومذكراتك . ومن اجله تفكر في خدمتك وفي مسئوليتك العائلية . بشرط أن هذا التفكير كله لا يبعدك عن الله الذي هو الأصل والأساس . فكر في مسئولياتك العائلية . بشرط أن هذا التفكير كله لا يبعد عن الله الذي هو الأصل والأساس . فكر في مسئولياتك . وقل للرب أثناء ذلك :
إشترك في العمل مع عبيدك .
طالب مثلاً يذاكر أثناء الصيام . والله يشترك معه . هو يذاكر والله يعطيه الفهم ، ويثبت المعلومات في ذهنة وفي ذاكرته . وهذا التلميذ يقول للرب " أنا يارب لا أستطيع أن أفهم من ذاتي . أنت تجلس معي وتفهمني ،و أشكرك بعد ذلك لأنك كنت معي … وأنا أذاكر يارب ، ليس من اجل العلم ، ولا من أجل مستقبلي ، إنما من أجلك أنت ، لكي يعرف الكل أن أولادك ناجحون ، وأن كل عمل يقومون به يكونون أمناء فيه ، ويكون الرب معهم ويأخذ بيدهم ، فيحبك الناس بسببهم ..." تقول لله : من أجلك آكل ، ومن أجلك أصوم .
من أجلك آكل ، لكي آخذ قوة أقف بها في الصلاة ، وأسهر بها في التأمل ، وأخدم بها أولادك ، ويأخذ بها الناس فكرة أن أولادك أمناء في عملهم وأنا اصوم ، لكي يمكن لروحي أن تلتصق بك دون عائق من الجسد . هكذا تكون في الصوم مع الله في كل عمل تعمله .
وتدخل في شركة مع المسيح الذي صام .
تشترك معه في الصوم ، علي قدر ما تستطيع طبيعتك الضعيفة أن تحتمل . هو صام عنك ، فعلي الأقل تصوم عن نفسك . وهو قد رفض هذا الخبز المادي ، وأنت تشترك معه في رفض هذا الطعام البائد . وهو كان يتغذي بحبه للآب وعشرته معه ، وأنت أيضاً تكون كذلك . وهو انتصر علي الشيطان أثناء صومه ، وأنت تطلب إليه ان يقودك في موكب نصرته …
وبهذا يكون الصوم فترة غذاء روحي لك .
أخطر ما يتعب البعض في الصوم ، أن يكون الجسد لا يتغذي و الروح أيضاً لا تتغذي وهذا الوضع يجعل الصوم فترة حرمان أو تعذيب ، وليس هذا هو المعني الروحي للصوم . بل إن هذا الحرمان يعطي صورة قاتمه للصوم ، إذ يقتصر علي حرمان الجسد ( سلبياً ويترك غذاء الروح من الناحية الإيجابية .
وغذاء الروح معروف وهو :
الصلاة ، والتأمل ، وقراءة الكتاب المقدس ، وكل القراءات الروحية كأقوال الآباء وسير القديسين ، والألحان والتسابيح ، والإجتماعات والأحاديث الروحية و المطانيات ،… وما أشبة . وغذاء الروح يشمل أيضاً المشاعر الروحية ، ومحبة الله التي تتغذي بها الروح وكل أخبار الأبدية …
والروح إذا تغذي ، تستطيع أن تحمل الجسد .
وهذا نراه واضحاً جداً في أسبوع الآلام ، إذ تكون درجة النسك فيه شديدة وفترة الإنقطاع طويلة . ولكن الجسد يحتمل دون تعب ، بسبب الغذاء التي تأخذه الروح خلال هذا الأسبوع من ذكريات آلام المسيح ، ومن القراءات والألحان والطقوس الخاصة بالبصخة ، وتركيز العقل في الرب وآلامه … وكثيراً ما يقرأ الإنسان ، ويشبع بالقراءة ولذتها ، ويحين موعد الطعام ، فلا يجد رغبة في أن يكمل القراءة . لأن الروح تغذت فحملت الجسد فلم يشعر بجوع … إذن اعط الروح غذاءها أثنا الصوم . وكن واتقاً إن غذاء الروح سيعطي الجسد قوة يحتمل بها الصوم . كما أن صوم الجسد يعطي عمل الروح قوة إذ يكون عملا روحياً بزهد الجسد وزهد الفكر . ولذلك نجد :
صلوات الصوم اعمق ، وقداسات الصوم أعمق .
هي صلوات خارجة من جسد صائم قد أسلم قيادته للروح . وهي صلوات خارجه من قلب صائم عن الماديات ، ومن روح صائمه عن كل شهوة عالمية . لذلك تكون صلاة قوية . كصلوات الليل ونصف الليل التي يصليها الإنسان بجسد خفيف بعيد عن الأكل . آباؤنا في أصوامهم كانوا يهتمون بعمل الروح . فماذا عن أكلهم ؟
كانوا أيضاً في تناول الطعام يهتمون بعمل الروح .
وذلك انهم كانوا يكلفون واحدا منهم يقرأ لهم شيئاً من سير القديسين وأقوال الآباء أثناء تناولهم للطعام ، حتي لا ينشغلون بالأكل المادي ولا يتفرغون له ، وحتي يكون لهم غذاؤهم الروحي أيضاً أثناء تناولهم غذاء الجسد . وهكذا تعودوا عدم التفرغ لعمل الجسد ، وتعودوا سيطرة الروح علي كل عمل من أعمال الجسد . هناك وصايا تامر بالصوم . ولكن آباءنا لم يصوموا بسبب المر .
لم يصوموا طاعة و للوصية ، إنما محبة للوصية .
الطاعة درجة المبتدئين . ولكن الحب هو درجة الناضجين و الكاملين . وآباؤنا لم يكن الصوم بالنسبة إليهم أمراً ولا فرضاً ولا طقساً ، إنما كان لذه روحية ، وجدوا فيها شبعاً ، ووجدوا فيها راحة نفوسهم وأجسادهم .
وفي الصوم لم يقف آباؤنا عند حدود طاعة الوصية ، وإنما دخلوا في روحانية الوصية …
وروحانية الوصية الخاصة بالصوم هو لخيرنا ، ولولا ذلك ما أمرنا الله بالصوم وبالأضافة إلي ما قلناه ، سنشرح هذا الأمر بالتفصيل بمشيئة الرب في الفصل المقبل الخاص ( بالفضائل المصاحبه للصوم ) . اما ألان فسنتحدث عن أقدس أصوام السنة وهو الصوم الكبير
الصوم الكبير عبارة عن ثلاثة أصوام :
الأربعين المقدسة في الوسط . يسبقها أسبوع إما أن نعتبره تمهيدياً للأربعين المقدسة ، أو تعويضياً عن أيام السبوت التي لا يجوز فيها الإنقطاع عن الطعام . يعقب ذلك أسبوع الآلام . وكان في بداية العصر الرسولي صوماً قائماً بذاته غير مرتبط بالصوم الكبير .
والصوم الكبير أقدس أصوام السنة .
وأيامه هي أقدس أيام السنة ، ويمكن أن نقول عنه إنه صوم سيدي ، لأن سيدنا يسوع المسيح قد صامه . وهو صوم من الدرجة الأولي ، إن قسمت أصوام الكنيسة إلي درجات .
هو فترة تخزين روحي للعام كله .
فالذي لا يستفيد روحياً من الصوم الكبير ، من الصعب أن يستفيد من ايام أخري أقل روحانية . والذي يقضي أيام الصوم الكبير باستهانة ، من الصعب عليه يدقق في باقي أيام السنة . حاول أن تستفيد من هذا الصوم في ألحانه وقراءاته وطقوسه وروحياته الخاصة وقداساته التي تقام بعد الظهر .
كان الآباء يتخذون الصوم الكبير مجالاً للوعظ .
لأن الناس يكونون خلاله في حالة روحية مستعده لقبول الكلمة . حقاً عن الوعظ مرتب في كل أيام السنة . ولكن عظا الصوم الكبير لها عمق أكثر . وهكذا فإن كثيراً من كتب القديس يوحنا ذهبي الفم ، كانت عظات له ألقاها في الصوم الكبير ، وكذلك كثير من كتب القديس أوغسطينوس . بل أن الكنيسة كانت تجعل أيام الصوم الكبير فترة لإعداد المقبلين للإيمان .
فتعدهم بالوعظ في الصوم الكبير ليتقبلوا نعمة المعمودية .
فكانت تقام فصول للموعوظين خلال هذا الصوم تلقي فيها عليهم عظات لتعليمهم قواعد الإيمان وتثبيتهم فيها . وهكذا ينالون العماد في يوم أحد التناصير ، لكي يعيدوا مع المؤمنين الأحد التالي أحد الشعانين ويشتركون معهم في صلوات البصخة وأفراح عيد القيامة . ومن أمثلة ذلك عظات القديس كيرلس الأورشليمي إعداد الموعظين للإيمان بشرحه لهم قانون الإيمان في أيام الصوم الكبير .
ولاهتمام الكنيسة بالصوم الكبير جعلت له طقساً خاصاً .
فله ألحان خاصة ، فترة إنقطاع أكبر . وله قراءات خاصة ، ومردات خاصة ، وطقس خاص في رفع بخور باكر ، ومطانات خاصة في القداس قبل تحليل الخدام نقول فيها ( اكلينومين تاغوناطا ). ولهذا يوجد للصوم الكبير قطمارس خاص . كما انه تقرأ فيه قراءات من العهد القديم . وهكذا يكون له جو روحي خاص .
وقد علت الكنيسة له أسبوعاً تمهيدياً يسبقة . حتي لا يدخل الناس إلي الربعين المقدسة مباشرة بدون استعداد . وإنما هذا الأسبوع السابق ، يمهد الناس للدخول في هذا الصوم المقدس ، وفي نفس الوقت يعوض عن إفطارنا في السبوت التي لا يجوز الانقطاع فيها .
بل الكنيسة مهدت له أيضا بصوم يونان .
فصوم يونان ، أو صوم نينوي يسبق الصوم الكبير بأسبوعين ، ويكون بنفس الطقس تقريباً وبنفس الألحان ، حتي يتنبه الناس لقدوم الصوم الكبير ويستعدون له بالتوبة التي هي جوهر صوم نينوي . وكما اهتمت الكنيسة بإعداد أولادها للصوم الكبير ، هكذا ينبغي علينا نحن أيضا أن نلاقيه بنفس الاهتمام .
وإن كان السيد المسيح قد صار هذا الصوم عنا ،
وهو في غير حاجة إلي الصوم ، فكم ينبغي أن نصوم نحن في مسيس الحاجة إلي الصوم لكي نكمل كل بر ، كما فعل المسيح . ومن اهتمام الكنيسة بهذا الصوم أنها اسمته الصوم الكبير
فهو الصوم الكبير في مدته ، والكبير في قدسيته .
إنه اكبر الأصوام في مدته التي هي خمسة وخمسون يوماً . وهو اكبرها في قدسيته ، لأنه صوم المسيح له المجد مع تذكاراً آلامه المقدسة . لذلك فالخطية في الصوم الكبير شاعة .
حقاً ان الخطية هي الخطية . ولكنها أكثر بشاعة في الصوم الكبير مما في باقي الأيام العادية . لأنن الذي يخطئ في الصوم عموماً ، وفي الصوم الكبير خصوصاً ، هو في الواقع يرتكب خطية مزدوجة : بشاعة الخطية ذاتها ، يضاف إليها الاستهانة بقدسية هذه الأيام . إذن هما خطيئتان وليس واحدة .
والاستهانة بقدسية الأيام ، دليل علي قساوة القلب .
فالقلب الذي لا يتأثر بروحانية هذه الأيام المقدسة ، لا شك أنه من الناحية الروحية قلب قاس يخطئ في الصوم ، ينطبق عليه قول السيد المسيح " إن كان النور الذي فيك ظلاماً ، فالظلام كم يكون " ( مت 6:23) . أي إن كانت هذه الأيام المقدسة المنيرة فترة للظلام ، فالأيام العادية كم تكون ؟!
وقد اهتم الآباء الرهبان القديسون بالصوم الكبير .
حياتهم كلها كانت صوماً . ولكن إيام الصوم الكبير كانت لها قدسية خاصة في الأجيال الأولي ، حيث كانوا يخرجون من الأديرة في الأربعين المقدسة ويتوحدون في الجبال . ولعلنا نجد مثالاً لهذا في قصة القديس ولقائه بالقديسة مريم القبطية التائبة . وهكذا كان أيضاً نفس الاهتمام في رهبنة القديس الأنبا شنودة رئيس المتوحدين ، وفي كثير أثيوبيا .
فلنهتم نحن أيضاً بهذه الأيام المقدسة .
أن كنا لا نستطيع أن نطوي الأيام كما كان يفعل السيد المسيح له المجد فعلي الأقل فلنسلك بالزهد الممكن ، وبالنسك الذي نستطيع أن نحتمله . وأن كنا لا نستطيع أن ننتهر الشيطان ونهزمة بقوة كما فعل الرب ، فعلي الأقل فلنستعد لمقاومته . ولنذكر ما قاله القديس بولس الرسول في رسالته إلي العبرانيين معاتباً " لم تقاوموا بعد حتي الدم مجاهدين ضد الخطية "( عب 12: 4) . مفروض إذن أن يجاهد الإنسان حتي الدم في مقاومة الخطية . إن كانت ثلاثة أيام صامتها استير وشعبها ، وكان لها مفعولها القوي ن فكم بالأولي خمسة وخمسون
هنا واقول لنفسنا في عتاب :
كم صوم الكبير مر علينا في حياتنا ، بكل ما في الصوم الكبير من روحيات ؟ لو كنا نجني فائدة روحية في كل صوم ، فما حصاد هذه السنين كلها في أصوامها الكبيرة التي صمنها ، وباقي الأصوام الأخري أيضاً ؟ إن المسأله تحتاج إلي جدية في الصوم ، وإلي روحانية في الصوم ، ولا نأخذ الأمر في روتينية أو بلا مبالاة .
إن الذين يصمون ولا يستفيدون من صومهم ، لابد أنهم صاموا بطريقة خاطئة ، فالعيب لم يكن في الصوم ، وإنما كان في الطريقة . وهؤلاء إما انهم صاموا بطريقة جسدانيه ، ولم يهتموا بالفضائل المصاحبة للصوم أو أنهم إتخذوا الصوم غاية في ذاتها ، بينما هو مجرد وسيلة توصل إلي غاية . والغاية هي إعطاء الفرصة للروح .
إن الصوم هو فترة روحيات مركزة
فترة حب لله ، وإلتصاق به . وبسبب هذا الحب ارتفع الصائم عن مستوي الجسد الجسدانيات
هو ارتفاع عن الأرضيات ليتذوق الإنسان السمائيات . إنه فتره مشاعر مقدسة نحو الله . علي الأقل فيها الشعور بالوجود مع الله والدالة بالوجود مع الله والداله معه . وهو فترة جهاد روحي : جهاد مع النفس ، ومع الله ، وجهاد ضد الشيطان .
أيان الصوم هي أيام للطاقة الروحية وفترة تخزين . فمهن عمق الروحيات التي يحصل عليها في الصوم ، يأخذ الصائم طاقة روحية تسنده في أيام الإفطار . فالذي يكون أميناً لروحياته في الصوم الكبير مثلاً ، يحصل علي خزين روحي يقويه أيام الخمسين حيث لا صوم ولا مطانيات … ولكي يكون صوم الإنسان روحياً ، عليه بالملاحظات الآتية :
1- يكون الصوم روحانياً في هدفة ودوافعه :
لا يكون اضطراراً ، أو لكسب المديح ، أو بسبب عادة . إنما يصوم لأجل محبة الله ، إرتفاعاً عن الماديات والجسدانيات لتأخذ الروح فرصتها .
2- يكون الصوم فترة للتوبة ونقاوة القلب :
يحرص فيه الصائم علي حياة مقدسة مقبولة أمام الله . فيها الاعتراف وتبكيت النفس ، وفيها التناول من الأسرار المقدسة …
3- يكون الصوم فترة غذاء روحي ببرنامج روحي قوي :
ويهتم فيه بكل الوسائط الروحية . ولا يركز حول أمور الجسد في الصوم ، أنما علي أمور الروح . وأضعاً أمامه باستمرار ليس مجرد نوعية الطعام الصيامي ، وإنما علي أمور الروح . واضعاً أمامه باستمرار ليس مجرد نوعية الصيامي ، وأنما قدسية أيام الصوم وما يليق بها ، لكي تقوي روحه فيها … الصوم يوصل إلي قوة الروح . وقوة الروح تساعد علي الصوم .
وفي الصوم فضائل يرتبط بعضها بالبعض الآخر .
الصوم يساعد علي السهر لخفة الجسد . والسهر يساعد علي القراءة والصلاة . والقراءة الروحية أيضاً تساعد علي الصلاة . والعمل الروحي في مجموعة يحفظ الإنسان الروحي ساهراً . القراءة مصدر للتأمل ، والتأمل يقوي الصلاة . والصلاة أيضاً مصدر للتأمل …
والصوم يرتبط بالمطانيات . والمطانيات تساعد علي التواضع وانسحاق علي الواضع وأنسحاق القلب كما ان انسحاق الجسد بالصوم يوصل إلي إنسحاق الروح .
كما يرتبط الصوم بفضائل تتعلق بغرض الصوم .
فهناك صوم غرضه الاستعداد للخدمة ، كصوم الرسل . وصوم غرضه التوبة كصوم نينوي . وصوم غرضه إنقاذ الشعب ، كصوم استير … وهناك من يصوم لأجل غيره ، وفي ذلك حب وبذل ومشاركة . وكلها أصوام ممزوجة بفضائل خاصة . ليتنا نتذكر في صومنا أن السيد المسيح صام وهو ممتلئ بالروح . أما نحن فعلي الأقل فلنصم لكي نمتلئ بالروح .
الصوم أيام مقدسة ، يحياها الإنسان في قداسة.
لابد أن يكون فيها الفكر مقدساً . والقلب مقدساً ، والجسد أيضاً مقدساً .الصوم فترة تريد فيها ان تقترب إلي الله ، بينما الخطية تبعدك عنه . لذلك يجب أن تبتعد عن الخطية بالتوبة ، لتستطيع الالتصاق بالله . في الصوم ، يصوم الجسد عن الطعام ، وتصوم الروح عن كل شهوة ارضية ، وكل رغبة عالمية ، وتصوم عن الملاذ الخاصة بالجسد . وهكذا تقترب إلي الله بالتوبة . فاسأل نفسك : هل أنت كذلك ؟
بدون التوبة يرفض الله صومك ولا يقبله . وبهذا تكون لا ربحت سماءاً ولا أرضاً . وتكون قد عذبت نفسك بلا فائدة … فإن أردت ان يقبل الله صومك ، راجع نفسك في كل خطاياك ، وأرجع عنها … لقد أعطانا الله درساً، حينما تقدم التوبة قبل صومه . وكان ذلك رمزاً .
خذ مثالاً واضحاً من صوم نينوي .
قال عنها الكتاب في صومهم إنهم رجعوا كل واحد عن طريقه الرديئة وعن الظلم الذي في أيديهم ( يون3:
: . ولهذا السبب لم يشأ الرب أن يهلكهم " لما رأي أعمالهم أنهم رجعوا عن طريقهم الرديئة " ( يون 3:10) . ولم يقل لما رأي مسوحهم وصومهم ، بل رأي توبتهم هذه التي كانت هي العنصر الأساسي في صومهم .
وفي سفر يوئيل نري مثالاً للتوبة المصاحبة للصوم .
حيث قال الرب للشعب علي لسان نبية " أرجعوا إلي بكل قلوبكم وبالصوم والبكاء والنوح … مزقوا قلوبكم لا ثيابكم ، وأرجعوا إلي الرب إلهكم لأنه رؤوف .." ( يوئيل 2: 12، 13) . واضح هنا أن الصوم مصحوب بالتوبة و البكاء . إذن ليس هو مجرد امتناع عن العام … إنه مشاعر قلب من الداخل نحو الله .
وفي صوم دانيال النبي ، قدم توبة الشعب كله .
لقد صام ، واعترف للرب قائلاً " أخطأنا وأثمنا ، وعلمنا الشر وحدنا عن وصاياك … لك يا سيد البر ، أما لنا فخزي الوجوه … يا سيد لنا خزي الوجوه ، لملوكنا ولرؤسنا ولآبائنا أخطأنا إليك "( دا 9: 5- .
إذن اصطلح مع الله في صومك …
لا تقل " إلي متي يارب تنساني ؟ إلي الانقضاء ؟ حتي متي أحجب وجهي عنك " طهروا إذن نفوسكم وقدسوها ، واستعدوا للقاء هذه الأيام ، استعدوا بإسكان الله في قلوبكم ، وليس بمجرد الامتناع عن الطعام .
إن كنت في خطية ، إصطلح مع الله . وان كنت مصطلحا معه ، عمق محبتك له
وأن أبطلت الخطية في الصوم ، إستمر في أبطالها بعده
فليست التوبة قاصرة علي الصوم فقط ، وإنما هي تليق بالصوم ويتدرب الإنسان عليها ، فيتنقي قلبه ، يحفظ بهذا النقاء كمنهج حياة .
وفي ذلك كله ، أعدد نفسك للجهاد ضد الشيطان .
قال يشوع بن سيراخ " يا أبني إن تقدمت لخدمة ربك ، هيئ نفسك لجميع التجارب "… إن الشيطان إذ يري صومك وتوبتك ، يحسد عملك الروحي ، فيحاربك ليفقدك ثمرة عملك ، ويلتمس الحيل إسقاطك لك " لن أتركك حتى تكمل كل بر " … تذكر إذن قول القديس بطرس الرسول " قاوموه راسخين في الإيمان " ( 52بط 5: 9) . الصوم إذن فترة حروب روحية كما حدث للسيد له المجد ( مت 4) . وهي أيضاً فترة إنتصار لمن يشترك مع المسيح في صومه .
الصوم بدون صلاة يكون مجرد عمل جسداني .
وهكذا يفقد طابعة الروحي ويفقد فائدته الروحية … وليس الصوم هو الاكتفاء بمنع الجسد عن الطعام ، فهذه ناحية سلبيه . أما الناحية الإيجابية فتظهر في إعطاء الروح غذاءها . الذين يصمون ، وليس في أصوامهم أي عمل روحي ، لا صلاة ، ولا تأمل ، ولا قراءات روحية ، ولا ألحان ولا تراتيل ، ولا مطانيات ، هؤلاء تكون أصوامهم ثقلاً عليهم ، وبلا فائدة . ما الفرق بين هؤلاء وأصوام البوذيين و الهندوس . وأين شركة الروح القدس في الصوم ؟! الصوم فرصة للصلاة ، لأن صلاة واحدة تصليها في صومك ، هي أعمق من مائة صلاة وانت ممتلئ بالطعام وصوتك يهز الجبل !
الكنيسة تعلمنا باستمرار ارتباط الصلاة بالصوم .
وفي قسمة الصوم الكبير في القداس الإلهي تتكرر عبارة " بالصلاة و الصوم ". والسيد المسيح لما تكلم عن إخراج الشياطين ، قال " هذا الجنس لا يخرج إلا بالصلاة و الصوم " وهكذا قرن الصوم بالصلاة .
والأصوام المشهورة في الكتاب ، مرتبطة أيضاً بالصلاة .
ففي صوم نحميا يقول " فلما سمعت هذا الكلام ، جلست وبكيت ، ونحت أياماً ، وصمت وصليت … وقل " أيها الرب إله السماء … لتكن أذنك مصغية وعيناك مفتوحتين ، لتسمع صلاة عبدك الذي يصلي إليك الآن نهارا وليلاً …" ( نح 1: 4-6)وبدأ يعترف بخطايا الشعب ، طابلاً الرحمة وتدخل الرب … وصوم عزار أيضاً كان مصحوباً بالصلاة والصراع مع الله ، بقوله : "أمل أذنك يا إلهي واسمع . أفتح عينيك وانظر خرابنا و المدينة التي دعي أسمك عليها لأنه ليس لأجل برنا نطرح تضرعاتنا أمام وجهك ، بل لأجل نفسك يا إلهي ، لأن أسمك دعي علي مدينتك وعلي شعبك "( دا 9: 18،19) . وصوم نينوي كانوا فيه " يصرخون إلي الله بشدة "( يون 3:.
فاصرخوا إلي الرب خلال صومكن ، وارفعوا إليه قلوباً منسحقة .
وثقوا ان الله يستجيب لصومك وصراخكم ، وينتهر الرياح والأمواج ، فيهدأ البحر . حقاً ما اعمق الصلوات ، إن كانت في أيام مقدسة ، ومن قلوب متذللة أمام الله بالصوم ، ومتنقية بالتوبة ، وكم يكون عمقها إن كانت مصحوبة أيضاً بقداسات وتناول … درب نفسك في الصوم علي محبة الصلاة والصراع مع الله . وقد كتبنا لك في الفصل الخامس مجموعة تدريبات عن الصلاة .
والمهم في صلاتك أن تعطي الله قلبك وفكرك .
ولا تحاول أن تريح ضميرك بشكليات ، بمجموعة من التلاوات لا عمق فيها وليست حاجة من القلب ، ثم تقول " أنا صمت وصليت " ! فالرب يعاتب قائلاً " هذا الشعب يكرمني بشفتيه ، اما قلبه فمبتعد عني بعيداً "( مر 7: 6) . إن الصلاة صلة ، فاشعر أثناء صلاتك وصومك ، أنك في صله مع الله . وغن كان تقديس الصوم معناه تخصيصه للرب :
فهل فترة صومك خصصتها للصلاة وللعمل الروحي ؟
هل هي فترة صلاة وتأملات وقراءات روحية ، وتخزين روحي ، وتفرغ لله وعشرته ؟ وهل صلواتك فيها أضعاف صلواتك في الأيام العادية . وأن لم تخصص فيها أكبر وقت لله ، فهل خصصت له مشاعرك وعواطفك ؟
إن الصوم المصحوب بعشرة الله ، يتحول إلي متعة روحية
وفي هذه المتعة ، يحاول الصائم ان يكثر من صومه ، ويصبح الطعام ثقلاً عليه ، لأنه يرجعه إلي استعمال الجسد الذي استراح منه إلي حين طوال ساعات انقطاعه .
الصوم فترة تنسحق فيها الروح أمام الله ، بالتوبة والدموع وانكسار القلب واتضاعه ، فتعرف الذات ضعفها ، أنها تراب ورماد ، وتلجأ إلي القوة العليا .
حينما ينسحق الجسد بالجوع ، تنسحق الروح أيضاً
وفي انسحاقها ، وتنحني النفس أمام الله خاشعة ذليلة معترفة بخطاياها وتذلل النفس يحنن قلب الله وقلوب السمائيين جميعاً . والإنسان في اتضاعه وشعوره بضعفه ، يشعر أيضاً بزهد فغي كل شئ ، ولا يتعلق قلبه بآيه شهوة فيكلم الله بعمق .
والكتاب المقدس يقدم أمثلة عديدة عن التذلل في الصوم :
لأن الله لا يحتمل أن يري مذله أبنائه أمامه . واكثر الأمثلة في سفر القضاة التي رأي فيها الله مذله شعبة فنزل وخلصهم ( قض 2) ، " في كل ضيقهم تضايق ، وملاك حضرته خلصهم " ( أش 63:9) . بتذللهم وانسحاقهم يتضرعون . وقريب هو الرب من المتضعين ، ومنسحقو القلوب هو يخلصهم …
الصوم الذي آمر به يوئيل النبي ، مثال واضح .
قال : " تنطقوا ونوحوا أيها الكهنة … أدخلوا ، بيتوا بالمسوح يا خدام إلهي …. قدسوا صوما ، نادوا باعتكاف "( يوئيل 1: 13، 14) . " الآن - يقول الرب - أرجعوا إلي الرب إلهكم … قدسوا صوماً نادوا باعتكاف … ليخرج العريس من مخدعه و العروس من حجلتها . ليبك الكهنة خدام الرب بين الرواق و المذبح ويقولوا : أشفق يارب علي شعبك ، ولا تسلم ميراثك للعار ، حتى تجعلهم الأمم مثلاً . لماذا يقولون بين الشعوب : أين إلههم ؟" ( يوئيل 2: 12-17) .
إننا نري هنا صورة تفصيلية للصوم المتكامل .
الصوم ، ومعه التوبة ( الرجوع إلي الله ) ، ومعه الصلاة ، والتذلل والبكاء و النوح والبعد عن الجسدانيات ، ومعه أيضا الاعتكاف والمسوح …. هذا هو الصوم في كل عناصره ، وليس مجرد الامتناع عن الطعام .
مثال آخر ، هو صوم أهل نينوي .
صاموا ، حتى الأطفال و الرضع ، لم يذوقوا ولم يأكلوا شيئاً . ولكنهم لم يكتفوا بهذا ، بل تذللوا أمام الله في المسوح والرماد . حتى الملك نفسه ، خلع تاجه وملابسه
الملكية . ولم يجلس علي عرشه ، بل جلس معهم علي المسوح والرماد … وصرخ الكل إلي الله بشدة ( يون 3) .
كذلك أيضاً صوم نحميا ، وصوم عزار
قال عزار الكاتب والكاهن " ناديت هناك بصوم علي نهر أهوا ، لكي نتذلل أمام إلهنا ، لنطلب منه طريقاً مستقيمة لنا ولأطفالنا … فصمنا وطلبنا ذلك من الله فاستجاب ( عز 8: 21،23) . وكذلك نحميا أيضاً يقول :" بكيت ونحت أياماً ، وصمت وصليت "( نح 1:4) . هذا عن نفسه ، أما عن الشعب ، فيقول إنهم : إجتمعوا بالصوم ، وعليهم مسوح وتراب ، وانفصلوا عن الزيجات الخاطئة ، ووقفوا واعترافوا بخطاياهم وذنوب آبائهم . وأقاموا في مكانهم ، وقرأوا في شريعة الرب إلههم ( نح 9:1-3) . أليس هذا أيضاً صوماً متكاملاً : بالصلاة ، والبكاء والنوح ، وقراءة الكتاب ، والتوبة والاعتراف في المسوح و التراب … إذن ليس هو مجرد امتناع عن الطعام ..
وبنفس الوضع كان أيضاً صوم دانيال النبي .
يقول " فوجهت وجهي إلي الله السيد ، طالباً بالصلاة و التضرعات ، بالصوم و المسح والرماد . وصليت إلي الرب إلهي واعترفت … أخطأنا وأثمنا وعلمنا ¸الشر وتمردنا وحدنا عن وصاياك .." ( دا9:3-5) . وفي صوم آخر يقول " أنا دانيال . كنت نائحاً ثلاثة أسابيع أيام . لم آكل طعاماً شهياً ، ولم يدخل في فمي لحم ولا خمر ، ولم أدهن …"( دا 10: 2، 3) . إنها نفس عناصر الصوم التي وردت في الأصوام السابقة … حقاً ، هذا هو الصوم الذي قال عنه داود النبي :
" كان لباسي مسحاً . أذللت بالصوم نفسي "( مز 35:17) .
ولا شك أن النوح يوقف كل شهوة للجسد ، ويبعد كل رغبة في الطعام . كما أنه بالإتضاع تفتح أبواب السماء .
لقد تكررت هذه العبارة مرتيين في سفر يوئيل النبي " قدسوا صوماً ، نادوا باعتكاف "( يوئيل 1: 14 ،2:15)
نادوا باعتكاف ، لكي تجدوا وقتاً للعمل الروحي .
في الاعتكاف تصمت ، ولا تجد من تكلمه ، فتكلم الله . ولكن لا تعتكف مع الخطية ، أو مع طياشة الأفكار … وتعتكف أيضاً حتى لا يظهر صومك للناس بل لأبيك الذي يري في الخفاء . والمعروف ان الصائم في نسكه وجوعه ، قد يكون في حالة من الضعيف ، لا تساعده علي بذل مجهود ، فالاعتكاف بالنسبة إليه أليق . في صومه ، روحه مشغوله بالعمل الجواني مع الله ، لذلك فالكلام يعطله عن الصلاة والهذيذ والتأمل ، والمقابلات والزيارات تمنع تفرغه لله ، وربما توقعه في أخطاء .
السيد المسيح في صومه ، كان معتكفاً علي الجبل .
في خلوة مع الله الآب ، وتفرغ للتأمل … وهكذا أيضاً كانت أصوام آبائنا في البرية …أما أنت ، فعلي قدر إمكانياتك أعتكف … وإذا اضطررت لخلطة ، ليكن ذلك في حدود الضرورة ، وتخلص من الوقت الضائع ، ومن كل كلمة زائدة . وهذا يذكرنا بصوم آخر هو :
قال مار اسحق :" صوم اللسان خير من صوم الفم . وصوم القلب عن الشهوات خير من صوم الاثنين " أي خير من صوم اللسان ومن صوم الفم كليهما . كثيرون يهتمون فقط بصوم الفم عن الطعام . وهؤلاء وبخهم الرب بقوله " ليس ما يدخل الفم ينجس الإنسان ، بل ما يخرج من الفم هذا ينجس الإنسان " ( مت 15: 11) . وهكذا أرانا أن الكلام الخاطئ نجاسة . وايضاً قال معلمنا يعقوب الرسول عن اللسان إنه " يدنس الجسد كله "( يع3:6) . فهل لسانك صائم مع صوم جسدك ؟ وهل قلبك صائم عن الشهوات .
إن القلب الصائم يستطيع ان يصوم اللسان معه .
لأنه " من فيض القلب يتكلم الفم "( مت 12: 34) . وكما قال الرب أيضاً " وأما ما يخرج من الفم ، فمن القلب يصدر "( مت 15: 18) . وكذلك لأن " الرجل الصالح من كنز قلبه الصالح يخرج الصلاح . والرجل الشرير من كنز قلبه الشرير تخرج الشرور "( مت 12: 35) . لذلك إن كان قلبك صائماً عن الخطية ، فسيكون لسانك صائماً عن كل كلمة بطالة .
والذي يصوم قلبه ، يمكنه أن جسده أيضا .
أذن المهم هو صوم القلب و الفكر عن كل رغبة خاطئة . أما صوم الجسد فهو أقل شئ . وأحرص إذن في صومك أن تضبط لسانك ، وكما تمنع فمك عن الطعام ، إمنعه عن الكلام الردئ . وسيطر علي أفكارك ، واضبط نفسك .
جميل ان تجميل أن تضبط نفسك ضد كل رغبة خاطئة ، سواء أتتك من داخلك أو من حروب الشياطين . فالذي يملك روحه خير ممن يملك مدينة )( ام 16: 32) .
أمسك إذن زمام إرادتك في يدك .
في صوم الجسد تشمل كل فكر ، وكل رغبة بطالة ، وكل تصرف خاطئ ، وكل شهوة للجسد . اما الذي يملك إرادتك في الطعام فقط ، وينغلب من باقي شهواته ، فصومه جسداني . والذي لا يستطيع أن يضبط نفسه في صوم الجسد ، فبالتالي سوف لا يستطيع ان يضبط نفسه في الأفكار و الشهوات والتصرفات
أما ضبطك لشهواتك فدليل علي الزهد ومحبة الله .
تقول للجسد في الصوم : أرفع يدك عن الروح ، واطلقها من روابطك ، لتتمتع بالله . وأنت تصوم لكي تنفك من رباطات الجسد . وشهوة الأكل هي إحدى هذه الرباطات . وهناك رباطات أخري كالشهوات الجسدية . وهكذا في الصوم ، يكون قهر الجسد أيضا بالبعد عن العلاقات الزوجية ، ولكن يكون ذلك باتفاق ( 1كو 7:5) . وكما يقول يوئيل النبي في الصوم " ليخرج العريس من خدره ، والعرس من حجلتها " ( يؤئيل 2: 16) . وكما قيل عن داريوس الملك ، لما ألقي دانيال في الجب إنه " بات صائماً ، ولم يؤت قدامه بسراريه "( دا 6: 18) . حتى مجرد زينة الجسد … قال دانيال النبي في صومه " ولم أدهن "( دا 10 : 3) . وقال عن شهوة الطعام " ولم آكل طعاماً شهياً ".
قهر الجسد ليس هدفاً في ذاته ، بل وسيلة للروح .
إن ضبط الجسد لازم حتى لا ينحرف فيهلك الروح معه . وفي ذلك ما أخطر قول الرسول " أقمع جسدي وأستعبده . حتى بعد ما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضاً "( 1كو 9:27) . فحينما يكون الجسد مقهوراً ، تمسك الروح بدفة الموقف وتدبير العمل . والجسد حينئذ لا يقاومها ، بل يشترك معها ويخضع لقيادتها . أضبط إذن جسدك ، وأبعده عن كل المتع والترفيهات و الشهوات ، بحكمة
ولا يكفي فقط أن تصوم ، بل تنتصر علي شهوة الأكل .
وهذا يقودنا في الصوم إلي فضيلة أخري هي الزهد .
قد يمتنع الإنسان عن الطعام ، ولكنه يشتهيه . لذلك فليس السمو في الأمتناع عن الطعام ، إنما في الزهد فيه . الارتفاع عن مستوي الأكل ، يوصل إلي الزهد فيه ، وإلي النسك فيه ، وبالتالي إلي فضيلة التجرد . ولكن ماذا إن لم يستطع أن يصل إلي الزهد و التجرد ؟
إن لم يمكنك التجرد و الزهد ، فعلي الأقل أترك من أجل الله شيئاً .
كان المطلوب من آدم وحواء ، أن يتركا من أجل الله ثمرة واحدة من الثمار . والمعروف أن ترك الطعام أو نوع منه ، ليس إلا تدريباً لترك كل شئ لأجل الله … وأنت ماذا تريد في الصوم أن تترك لجل الله ، لأجل محبته وحفظ وصاياه ؟ ان الله ليس محتاجاً إلي تركك شيئاً . ولكنك بهذا تدل علي ان محبتك لله قد صارت اعمق ، وقد عملية . ومن أجل محبته أصبحت تضحي برغباتك .
فالذي يشعر في الصوم بالجوع ، يشفق علي الجوعانين . وبهذه الرحمة يقبل الله صومه ، وكما قال " طوبي للرحماء فإنهم يرحمون "( مت 5: 7) . والكنيسة من اهتمامها بالصدقة ، ترتل في الصوم الكبير ترنيمة " طوبي للرحماء علي المساكين ".
ومن اهتمام الرب بالصدقة ، قال في نبوة اشعياء .
" أليس هذا صوماً أختاره : حل قيود الشر … إطلاق المسحوقين أحراراً … أليس أن تكسر للجائع خبزك ، وأن تدخل المساكين التائهين إلي بيتك . إذا رأيت عرياناً أن تكسوه ، وأن لا تتغاضي عن لحمك "( أش 58: 7) . وفي عصر الشهداء و المعترفين ، كانت الكنيسة تقول هذا التعليم
أن لم تجد ما تعطية لهؤلاء ، فصم وقدم لهم طعامك .
أي أنك لا تصوم ، وتوفر الطعام لك . وإنما تصوم وتقدم للمساكين الطعام الذي وفرته . ولهذا اعتادت كثير من الكنائس في أيام الصوم ، أن تقيم موائد للفقراء تسميها أغابي . ولكي لا يحرج الفقراء إن أكلوا وحدهم ، يأكل الشعب كله معاً .
المطانيات هي السجود المتوالي ، مصحوباً بصلوات قصيرة .
والكنيسة تربط المطانيات بالصوم الإقطاعي . فالأيام التي لا يجوز فيها الصوم الانقطاع . مثل الأعياد والسبوت والآحاد والخماسين - لا تجوز فيها أيضاً المطانيات ، سواء من الناحية الروحية أو الجسدية . لذلك يحسن أن تكون المطانيات في الصباح المبكر ، أو في أي موعد أثناء الانقطاع قبل تناول الطعام .
يمكن أن تكون المطانيات تذللاً أمام الله .
أي أنه مع كل مطانية ، يبكت الإنسان نفسه أمام الله علي خطية ما ، ويطلب مغفرتها : أنا يارب أخطأت في كذا ، فاغفر لي . أنال نجست هيكلك فاغفر لي . أغفر لي أنا الكسلان ، أنا المتهاون ، أنا الذي … ويمكن ان تكون المطانيات مصحوبة بصلوات شكر أو تسبيح .
ويمكن القيام بتمهيد روحي قبل المطانيات .
كمحاسبة للنفس ، أو أية قراءة روحية تشعل الحرارة في القلب .
مادام الصوم فترة روحية مقدسة ، يهدف فيه الصائم إلي نموه لالروحي ، أذن يليق أن يضع أمامه بعض التداريب روحية ، لكي يحول بها هذه الرغبات الروحية إلي حياة عملية . فما هي هذه التداريب ؟
تختلف التداريب الروحية من شخص إلي أخر .
وذلك بحسب احتياج كل إنسان . سواء كانت هذه التداريب تشمل مقاومة نقط ضعف معينه في حياة الصائم ، أو تشمل فضائل معينة تنقصه ، أو اشتياقات روحية تجول في قلبه .
وهكذا تختلف في الشخص الواحد حسب احتياجه .
فما يحتاج إليه إنسان في وقت ، غير ما يحتاجه في وقت آخر . وذلك حسب حروبه من جهة ، وحسب درجة نموه من جهة أخري . المهم أن توجد التداريب ، حتى يشعر الصائم أنه يضع هدفا خاصاً أمامه أثناء الصوم يحاسب نفسه عليه ، ويتابع تنفيذه ، وحتي بنتيجة واضحة من صومه بالإضافة إلي الفضائل العامة للصوم .
وما سنتحدث عنه الآن ، هو مجرد أمثلة .
وليضع كل إنسان ما يناسبه من تداريب أثناء صومه . وليكن ذلك تحت إشراف أب اعترافه بقدر الإمكان .
والغرض منها ان يكون الصوم سليماً ، نامياً في نوعيته .
ومنها تداريب خاصة بضبط النفس :
وقد تشمل منع الصائم لنفسه من أكل أصناف معينة يشتهيها . سواء كلن ذلك منعاً كلياً طوال فترة الصوم ، أو منعاً جزئياً خلال فترة محددة أو يوم معين . أو كان ذلك المنع عن طريق الإقلاقل من الكمية ، أو عدم طلب صنف معين بالذات . وقد تشمل تداريب ضبط النفس : فترة الإنقطاع وتحديدها و النمو فيها . والبعض يلجأ إلي نظام التدريج حتى خلال الصوم الواحد . فالصوم الكبير يشمل ثمانية أسابيع ، قد يتدرج الصائم أثناءها في درجة نسكه وانقطاعه عن الطعام . ويشمل ضبط النفس يوم الرفاع ، يوم العيد أيضاً ، فلا يكون الأكل فيهما علي مستوي التسيب بلا ضابط . كذلك ضبط النفس يشمل أيضاً عنصر الجوع .
وقد يكون التداريب خاصة بالفضائل المصاحبة للصوم .
وبهذا تشمل النواحي الروحية في الصوم كضبط النفس عموماً خارج نطاق الأكل ، والسيطرة علي الجسد عموماً ، والامتناع عن كل شهواته الجسدية ، وكل الترفيهات الخاصة بالحواس . وتداريب السهر ، وتدريب البعد عن الكماليات . وكذلك التداريب الخاصة بما في الصوم تذلل وانسحاق أمام الله ، وما فيه أيضاً من زهد ، يتسع نطاقه بالتدريج .
لأن الصوم هو بلا شك فترة توبة . وتداريب التوبة كثيرة نذكر منها :
التركيز علي نقطة الضعيف أو الخطية المحبوبة .
وكل إنسان يعرف تماماً ما هي الخطية التي يضعف أمامها ، ويتكرر سقوطه فيها ، وتتكرر في غالبية اعترافاته . فليتخذ هذه الخطايا مجالاً للتداريب علي تركها أثناء الصوم . وهكذا يكون صوماً مقدساً حقاً .
وقد يتدرب الصائم علي ترك عادة ما .
مثل مدمن التدخين الذي يتدرب في الصوم علي ترك التدخين . أو المدمن مشروباً معيناً ، أصبح عادة مسيطرة لا يستطيع تركها ، كمن يدمن شرب الشاي و القهوة مثلاً . أو الذي يصبح التفرج علي التلفزيون عادة عنده تضيع وقته وتؤثر علي قيامه بمسؤلياته . كل ذلك وأمثاله تكون فترة الصوم تدريباً علي تركه .
وقد يتدرب علي تركه خطية كالغضب أو الإدانة .
وهي من الخطايا المشهورة التي يقع فيها كثيرون . وربما تشمل التداريب مجموعة من خطايا اللسان تعود الإنسان السقوط فيها ، فيدرب نفسه في الصوم علي التخلص منها واحدة فواحدة .
وما أسهل أن يضع أمامه آيات خاصة بالخطية .
فمثلاً يذكر نفسه كلما وقع في خطية النرفزة يقول الكتاب " لأن غضب الإنسان لا يصنع بر الله "( يع 1:2) . ويكرر هذه الآية بكثرة كل يوم ، وبخاصة في المواقف التي يحاربه الغضب فيها . ويبكت نفسه قائلاً ماذا أستفيد من صومي ، إن أن كنت فيه أغضب ولا أصنع بر الله ؟! أو أن كان واقعاً في أية خطية من خطايا اللسان ، يضع أمامه قول الكتاب " كل كلمة بطالة يتكلم بها الناس ، سوف يعطون عنها حساباً يوم الدين " ( مت 12: 36) . ويقول لنفسه في عتاب : ماذا أستفيد إن صمت صوماً فيه كل ضبط النفس ، ثم لم أضبط لساني وقلت لأخي يا أحمق ، وأصبحت بذلك مستحقاً لنار جهنم ( مت 5: 22) .
وكلما تجوع وتشتهي الأكل ، بكت نفسك .
وقل لها : حينما تتركن هذه الخطية ، سوف أسمح لك بالأكل . هوذا الكتاب يقول " إن الذي لا يعمل لا يأكل " ( 2تس 3:10) . وأنت لم تعملي عمل التوبة اللائق بالصوم ، أو اللائق بقلب هو مسكن الله . وبخ نفسك وقل لها : ما فائدة امتناعي عن الأكل ، أن كنت لم أمتنع بعد عن هذه الخطية التي تفصلني عن الله ، ولا تنفعني صومي كله .
خذ نقطة الضعف التي فيك ، واجعلها موضوع صلواتك وجهادك خلال هذا الصوم .
ركز عليها التركيز كله ، من جهة الحرص و التدقيق ، ومن جهة مقاومة هذه الخطية . واسكب نفسك أمام الله ، وقل له : نجني يارب من هذه الخطية . أنا معترف بأنني ضعيف في هذه النقطة بالذات ، ولن أنتصر عليها بدون معونة منك أنت . إرحم يارب ضعفي وعجزي . لأ أريد أن أنتهي من هذا الصوم ، قبل أنت تنتهي هذه الخطية من حياتي . أجمع آيات الكتاب الخاصة وضعها أمامك ، لتتلوها باستمرار . لتكن فترة الصوم هذه هي فترة صراع لك مع الله ، لتنال منه قوة تنتصر بها علي خطاياك . درب نفسك خلال الصوم علي هذا الصراع . وقل : مادام الصوم يخرج الشياطين حسب قول الرب ، فليته يخرج مني خطاياي مادام هو مع الصلاة يخرج الشياطين .
يقول الكتاب " قدسوا صوماً ، نادوا باعتكاف "( يوئيل 1:14) . ضع هذه الآية أمامك ودرب نفسك علي الاعتكاف .
والمقصود بالاعتكاف ، أنه اعتكاف مع الله .
لأن هناك من يعتكفون في بيوتهم ، دون أي عمل روحي ، بل قد يعتكفون مع الراديو أو التلفزيون أو المجلات ، أو في أحاديث مع اهل البيت …! أو يعتكفون مع الأفكار الخاطئة ، ليس هذه هو الاعتكاف . إنما الاعتكاف يكون من أجل عمل روحي تعمله في مخدعك عليك مع الله . تعتكف مع الكتاب ، مع سير القديسين ، مع المطانيات ، مع الصلاة .
إن كان لك برنامج روحي ، ستحب الاعتكاف .
وإن استفدت فائدة روحية من اعتكافك ، ستستمر في هذا الاعتكاف ، وتشعر أنه بركة لك من الله . لذلك اجلس إلي نفسك . وضع هذا البرنامج ، واعتكف لأجل تنفيذه . وحاول أن تستغني عن صداقاتك وترفيهاتك خلال هذه الفترة ، التي سيكون فيها الله هو صديقك الحقيقي . درب نفسك أنك تستغني عن الحكايات و الدردشة والكلام الذي لا يفيد ، وحينئذ ستقدر أن تعتكف وتعمل مع الله . وإن لم تستطيع أن تعتكف طول الصوم ، فهناك حلول أسهل :
أستخدم تدريب " بعض الأيام المغلقة ".
أي حدد لنفسك أياما معينة لا تخرج فيها من بيتك ، وتكون قد نظمت مشغولياتك وزياراتك ، بحيث تعتكف في هذه الأيام المغلقة . ويمكن ان تبدأ بيوم واحد مغلق في الأسبوع ، ثم يومين ، ثم تنمو أكثر … ولكن ماذا تفعل إن لم تستطيع أن تغلق علي نفسك مع الله ؟
إن لم تستطيعوا أن تغلقوا أبوابكم خلال الصوم ، فعلي الأقل إغلقوا أفواهكم عن الكلام الباطل .
فحديثنا مع الناس ، ما أسهل ان يعطل حديثنا مع الله . وكما قال أحد الآباء " الإنسان الكثير الكلام ، إعلم أنه فارغ من الداخل "… أي فارغ من العمل الروحي داخل القلب ، فلا صلاة ولا تأمل ولا تلاوات روحية … إن تدريب الخلوة والإعتكاف ، سيساعدكم علي الصمت . والصمت سيخلصكم من أخطاء السان ، كما أنه يعطيكم فرصة للعمل الداخلي ، عمل الروح … ولكن ماذا إذن ، أن كان الصائم لا يستطيع الاعتكاف الكامل ، ولا الأيام المغلقة ، ماذا يفعل ؟ هناك تدريب آخر هو :
تدريب مقاومة الوقت الضائع :
هناك إنسان مشكلته الأولي ضياع وقته . وقته تافه في عينيه . يضيع أوقاته دون أن يستفيد . هذه هي خطيته الأولي . ونتيجة لإضاعة الوقت ، لا صلاة ، ولا قراءة ،ولا أي فكر روحي . ونتيجة لهذا أيضاً : الفتور ا